التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 101 | التأثير المباشر على القرآن

أهلًا بالمُشاهدين الكرام!

في الحلقة 99 من هذا البرنامج، تحدّثنا على الاتهامات التي جاءت في القُرآن من خصوم محمّد

بحيث يُعلّمه بشر، كما هو جلي في سورة النحل الآية 103 «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» (النحل: 103)

وتكرّرت عفوًا هذه الاتهامات في العديد من الآيات لخّصها النضر بن الحارث بقوله

“ما هذا القُرآن إلّا كذب اختلقه محمّد وأعانه عليه قوم آخرون، عدّاس مولى حوطيب بن عبد العُزّي، ويسار غلام العامر بن الحضرمي، وجابر مولى عامر بن الحضرمي كان يهوديًا فأسلم…” إلى أخره..

فلو صحّت هذه الروايات فالأمر يميل نحو التأثير بما يدور بين النبي وهؤلاء الأغراب من تساؤلات وحوارات لاهوتيّة مبنيّة على معرفة جيدة بالكتب المُقدّسة السابقة

فلو كان الموضوع مُجرّد لقاءات عادية في أمور الدنيا، ما قصد الرسول مثل هؤلاء العبيد الذين يرزحون تحت نير العبودية

فبعض المراجع الإسلامية تكشف سرّ مثل هذه اللقاءات الجانبية بعيدًا عن الأنظار

فعلى سبيل المثال يروي الإمام “الطبري” في تفسيره للآية 103 من سورة آل عمران «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (آل عمران: 103)

عن شخص يُدعى سويد بن صامت، كان محلّ تقدير واحترام عند قومه، وكانوا يُسمّونه الكامل

وإذا جاء إلى مكّة توجّه إليه محمد ليدعوه إلى الإسلام، فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي، فلما سأله محمّد عمّا معه، قال سويد: مجلّة لُقمان، يعني حكمة لُقمان

فطلب محمّد من سويد أن يعرض عليه محتوى هذه المجلّة، فعرضها عليه فقال أي محمّد: إن هذا الكلام حسن، معي أفضل من هذا قُرآن أنزله الله عليّ.

فإذا صحّت هذه الرواية كذلك فهذا معناه أنّ الرسول محمّد كان يبحث عن أُناس لهم معرفة بالكتب المُقدّسة والحِكم والقصص

وها نحن أمام رجل مُحترم في قومه يمتلك الحكمة والمعرفة

وافق أن يعرض قصة لُقمان على الرسول في الفترة المكية، نفس الفترة التي اتهم فيها محمّد بالتعلُّم على يد الغُرباء

هذه الرواية جعلت الرسول يقول على قصة لقمان كلام حسن، لكن عنده أفضل من هذا هو يعني القُرآن أنزله الله عليه.

وبعد فترة بسيطة هذه القصة تحوّلت بقُدرة الله إلى قُرآن في سورة سُمّيت باسم لُقمان

إذًا الاتهامات التي جاءت من خُصوم محمّد لها ما يُبرّرها بالنظر لهذه الروايات التي ذكرها الطبري

كمثال عن سويد بن الصامت، وقصة لُقمان التي جاءت في القُرآن

هناك روايات أخرى كرواية عن عائشة في صحيح البخاري كتاب (بدء الوحي) باب أول ما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤى الصالحة في النوم

يقول الحديث في نهاية الرواية: “ثم لم ينشب ورقة أن توفّي وفتُر الوحي”

وكأنّ الوحي كان مُرتبطًا في بداية النبوّة بحياة ورقة بن نوفل، ابن عم خديجة بنت خويلد الزوجة الأولى لمحمّد

كان رجلًا نصرانيًّا أو تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة،

وفي رواية يونس ومعمّر كان يكتب أي ورقة من الإنجيل بالعربية

فإن صحّت هذه الرواية، فورقة بن نوفل كان رجل دين نصراني يكتب الإنجيل العبراني

وهو الإنجيل المنحول المنسوب لمتّى الذي تحدّثنا عنه في الحلقة 97 من أو عن قصة هزّ النخلة الموجودة في سورة مريم الآيات 22 إلى 26

وهذا الإنجيل حسب المراجع الإسلاميّة التي ذكرناها، كان ورقة بن نوفل يكتب بلسان عربي لقومه

فقد ضاع هذا الإنجيل مع ظهور الإسلام، وكنّا تحدّثنا في حلقة عن الطائفة الأبيونية

كانوا يؤمنون به، وبما أن ورقة بن نوفل من أقرباء الرسول وهو مِن مَن أخبره بأنه نبيّ هذا الزمان في نفس الرواية

فلا بُد أن عرض عليه إنجيله هذا، كما عرض سويد بن الصامت قصة لُقمان على الرسول

إذًا البيئة التي ظهر فيها القُرآن ليست بيئة وثنيّة كما يُعتقد،

فالتفاعُل مع هذه البيئة الكتابية هي التي أثّرت في تأليف القُرآن بناء على الجدل اللّاهوتي الذي قدّمه له هؤلاء المُعلّمون

وهذا التأثير واضح للباحثين المُتخصّصين في علم الأنثروبولوجيا تُعزّزه الدراسات الفلولوجية

حيث تجد كلمة غير عربية بالعشرات لا زالت موجودة في النصّ القُرآني، ومعظمها من اللغات السريانية الآرامية

وفي حلقات سابقة قدّمنا أمثلة على هذه الكلمات التي تكرّرت عشرات المرّات في القُرآن، ككلمة الطور وهي من أصل سرياني وتعني الجبل

وكنا نتساءل بما أنّ القُرآن بلسان عربي مُبين، فلماذا استخدم كلمات أجنبية تحتاج إلى البيان؟

أم هي بقايا نصوص أعجمية، بلُغات أخرى حاول الرسول وهؤلاء المُعلّمون جعلها بلسان عربي مُبين؟

القول بوجود كلمات أجنبية في القُرآن عند فُقهاء القرون الأولى للإسلام، لا يجوز

حيث جاء في كتاب (مجاز القُرآن) لأبي عبيدة المتوفى سنة 207 للهجرة قال:

“من أعتقد أنّ في القُرآن شيئًا غير اللغة العربية، فقد ارتكب أحد الكبائر ضدّ الله”

وهذا الحُكم طبعًا لإبعاد شُبهة نقل القُرآن من مصادر أجنبية، ومنهم من أعتبر اللّغة العربية هي أمّ اللغات

ولا زال بعض الشيوخ يُردّدون هذا الزعم، إلى اليوم.

وعن الإمام الشافعي قال: “ولسان العرب أوسع الألسنة مذاهبًا، وأكثرها ألفاظًا…”

لتبرير وجود هذه الكلمات الأعجمية، ومع مرور الزمن بدأ الشيوخ والفُقهاء يعترفون بوجود هذه الكلمات الأجنبية

وصلت إلى حدّ التباهي بوجودها، لأنّ الخطاب القُرآني حسب رأيهم جاءت لكلّ الشعوب والأمم، فهو نوع من المُعجزات الربانيّة،

فنجد أبو منصور الجوالقي تحدّث بصراحة عن وجودها

وكذلك الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه (الاتقان في علوم القرن) قدّم لنا ما يُناهز 180 كلمات منسوبة إلى إحدى عشر لغة

من السريانيّة والعبريّة والحبشيّة والقبطيّة واليونانيّة والفارسيّة إلى أخره..

انظروا كيف تميل الأحكام عند الفُقهاء من التحريم إلى الإباحة

بما أن الفُقهاء الآن يُقرّون بوجود كلمات أجنبية في القرآن عُرّبت وأصبحت موجودة في القواميس العربية

فهل هناك بصمات واضحة على هذا التعريب؟

الجواب يكمن في نفس المثل الذي قدّمناه كدليل على وجود كلمات أجنبية في القُرآن

كما قُلنا كلمة طور باللغة السريانية، تكرّرت عشر مرّات في القُرآن بلفظها الآرامي السرياني الصحيح

بينما مرّة واحدة أخطأ صاحب النصّ في نقلها بلفظها الصحيح إلى ارتكاب خلط ما بين حرفي الراء والدال

فأصبحت طود بدلًا من طور، وذلك في سورة الشعراء الآية 63 «فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» (الشعراء: 63)

وهذا الخطأ ناتج عن تشابُه الحرفين الراء والدال في اللغة الآراميّة السريانيّة باختلاف التنقيط فقط،

وكلمة طود لا معنى لها في الأصل، ولكن أصبحت كلمة عربية، ومنها جاءت كلمة منطاد.

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 101

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً