التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 102 | هل القرآن ثمرة عمل جماعي؟

أهلًا بالمُتابعين الكرام!

لم نُكمل بعد سلسلة حلقات البيئة التي ظهر فيها القُرآن، ورأينا في الحلقتين 99 و101

بناء على الآيات القُرآنية التي تشهد وجود مُعارضة قويّة لما جاء به الرسول محمّد من قُرآن

واعتبروه مُجرّد أساطير الأولين، أعانه عليها قوم آخرون غير عرب، كما تُفيد الآية 4 من سورة الفرقان «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا» (الفرقان: 4)

الآية 103 من سورة النحل «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» (النحل: 103)

والآية 31 من سورة الأنفال «وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (الأنفال: 31) وغيرها من الشهادات داخل النصّ القُرآني،

وبالرجوع إلى التفاسير الإسلامية نجد روايات تُفيد وجود فعلي لشخصيات من الأعجام كانت تعيش في المُجتمع القُريشي كعبيد

كان الرسول يلتقي بهم خفية، يدعوهم لرسالته ويستمع لِما في جُعبتهم من قصص وحكم ووعظات ونصوص مُقدّسة تربّوا عليها وتشبّعوا بثقافتها.

ومن هؤلاء (عدّاس مولى حويطب بن عبد العُزّى، ويسار أو جبر غُلام عامر بن الحضرمي)، وفي المدينة يثرب (سليمان الفارسي)

ومن الحُكماء العرب أمثال سويد بن الصامت من الذين أخذ عنهم الرسول بعض القصص والحكم والأمثلة، كحكمة لقمان وهي قصة “أحيقار” المشهورة في التراث الأشوري

ووجود الإنجيل العبراني بخطّ يد ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة بنت خوليد زوجة الرسول الأولى وهو (إنجيل متّى المنحول)

بالإضافة إلى التأثيرات المُباشرة من طرف بعض الصحابة وهو موضوع تحت عنوان (فيما نزل من القُرآن على لسان بعض الصحابة)

أمثال عمر بن الخطاب، كما روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال أي عمر:

“وافقتُ ربي في ثلاث قُلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مُصلّى، فنزلت الآية 125 من سورة البقرة «وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (البقرة: 125)، وقلتُ يا رسول الله: إن نساءك يدخُل عليهن البارّ والفاجر فلو أمرتهن أن يتحجّبن؟ فنزلت آية الحجاب في سورة الأحزاب الآية 59. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه في الغيرة، فَقُلتُ لهنَّ: «عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبَدِّلَهُ أزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ» فنزلت كذلك في سورة التحريم الآية 5. ثم آية في سورة المؤمنين وهي الآية 12 «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ» فلما نزلت قلتُ أنا: (فتبارك الله أحسن الخالقين)، فنزلت كذلك «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (المؤمنون: 14)

وقيل هي لعبد الله بن أبي السّرح، كما جاء في تفسير الرازي والزمخشري والقُرطبي

ومن بين الموافقات أو التأثيرات ذكر السيوطي في كتابه (الاتقان في علوم القُرآن) قول سعد بن مُعاذ في الآية 16 من سورة النور «وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ» (النور: 16)

ومُصعب بن عمير في الآية 144 من سورة آل عمران «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (آل عمران: 144)

وحتّى الصحابيّات في الآية 140 من سورة آل عمران «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (آل عمران: 140)

إذًا، من خلال الموروث الإسلامي، وفي ظلّ وجود هذا الكمّ الهائل من الشخصيات المُحيطة بالرسول

التي أثرت بطريقة مُباشرة أو غير مُباشرة على القُرآن قبل جمعه في عصر الخلافة

يُمكن تصوّر فرضية احتمال أن يكون هذا القُرآن جزءًا أو كليًّا ثمرة عمل جماعي

وهذا ما ذهب إليه بعض المُستشرقين كالطبيب النمساوي Aloy Spenger والمؤرخ الأمريكي John Edward Wansbrough  من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية جامعة لندن

وكذلك الفرنسي   Claude Gilliutاستنادًا لهذه الروايات الإسلامية،

وتُفيد كذلك بأن الرسول طالب من زيد بن ثابت بين قوسين (رئيس لجنة جمع القُرآن في العصر البكري العُمري) ثمّ في المرة الثانية في عصر الخليفة عثمان بن عفان

وكان أي زيد رجلًا صاحب علم ومعرفة طلب منه الرسول بعدما أسلم في المدينة، أن يتعلّم كُتب اليهود كما جاء في كتاب (فتوح البلدان) للبلاذري

يقول زيد: “أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب اليهود، وقال لي: إني لا آمن يهوديًا على كتابي أي بين قوسين (المُراسلات) بينه وبينهم،

فلم يمُرّ بي نصف شهر حتّى تعلّمته، فكنتُ أكتبُ له إلى اليهود وإذًا كتبوا إليه قرأتُ كتابهم” انتهى الاقتباس

وفي رواية أخرى طلب منه تعليم السريانيّة، فتعلّمها في 17 يومًا،

فيُخبرنا عبد الله بن مسعود أن زيد بن ثابت من أصل يهوديّ في حديث صحيح، صحّحه الألباني في (صحيح النسائي) أنّ عبد الله بن مسعود غضب من أمر الخليفة عثمان قبول بجمع زيد بن ثابت في قوله:

“كيف تأمروني أقرأ؟ على قراءة زيد بن ثابت، بعدما قرأت من فيِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بضعًا وسبعين سورة، وإن زيدًا مع الغِلمان له ذؤابتان”

والذؤابتان تعني ضفيرة من الشّعر تكون عند اليهودي الأرثوذكس

إذًا الرجل كان يكتُب الرسول الرسائل والخطابات الموجّهة لليهود، ويتلّقى ردودًا عليها

من المؤكّد أنّها تتضمّن أجزاء من التوراة أو التناخ بخُصوص النبي المُنتظر وصفات الأنبياء على العموم والمسيا على وجه الخُصوص

بالإضافة إلى شريعة موسى وكل هذه المُجادلات اللّاهوتية باللغة العبريّة

ويعلق الأستاذ Claude Gilliut على هذه النقطة بسؤال مُهّم يقول فيه:

أليس من الأقرب إلى المنطق أن تكون فقرات من كتابات يهوديّة أحبّها محمّد أو آخرون، واستُخدمت في تأليف القُرآن؟

وهذا السؤل له ما يُبرّره، خاصة عندما تروي لنا السردية الإسلام لقاء الرسول بسويد بن الصامت كما قُلنا،

وعرض هذا الأخير عليه مجلة لُقمان، ولم تمُرّ سوى فترة قصيرة حتى جاءت سورة لقمان بالآيات 12 إلى 19 تتحدّث عن حِكم ووصايا لُقمان،

وبهذه المناسبة يرى المستشرق الألماني Theodor Noldeke أنّ الآيتين 14 و15 كانت من الأفضل وضعتا بعد الآية 19 عند جمع القُرآن أيام الخليفة عثمان

وهو رأي يوافقه عليه المُستشرق الأمريكي Elwood Morris Wherry

نعود الآن لتوضيح الإشكالية التي جعلت استبعاد تأثير الأعجام الذين قابلوا الرسول محمّد والذين راسلوه من اليهود وغيرهم بلُغات مُختلفة منها السريانيّة واليونانيّة والعبريّة وغيرها..

من طرف النُقّاد والباحثين المُسلمين، وهو وجود الآية 4 من سورة إبراهيم «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ…» إلى أخره.. (إبراهيم: 4)

ثم بالتدقيق في الآيات السابقة التي رأيناها في بداية الحلقة كالآية 103 من سورة النحل «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» (النحل: 103)

نجد الاتهام مصحوبًا بتبرير في أخر الآية،

في الدلالة اللفظيّة لكلمة مبين اسم فاعل من فعل أبان السببيّ المُتعدّي إلى مفعولين

ويعني جاعل الأشياء بيّنة، وبالتالي فالحوار مع هؤلاء الأعجام بلُغت أجنبيّة أو عربيّة عرجاء

فدور الرسول يقتضي التبيُّن بلسان قومه، وهذا بالضبط ما جاء في الآية 4 من سورة إبراهيم «…بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ…» (إبراهيم: 4)

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في الحلقة المُقبلة!


Download text file

Early History of Islam 102

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً