التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 104 | الأصل اللغوي للقرآن

أهلًا سهلًا بالجمهور بالمُتابعين الكرام!

رأينا في الحلقة السابقة سلسلة من النُقط تُفيد طبيعة البيئة التي ظهر فيها القُرآن،

وكلّها لتمُتّ للوثنية بصلة، بل ركّز النصّ القُرآني على قصّة موسى في أكثر من 137 موضعًا

ولا شكّ أنّ هذه المقاطع العديدة كانت في الأصل باللغة العبريّة

من البديهيّ أنّ موسى لم يأتِ للعرب، بل لبني إسرائيل، وهو بحسب التوراة لم رجُل خطابة طليق اللسان في قومه كمان يتّضح من سفر الخروج الإصحاح 4 العدد 10 «فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ» (خروج 4: 10)

  وهذا ما جاء في سورة طه الآيات 25 إلى 28«قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي» (طه: 25 -28)

ولتبليغ رسالة موسى من العبريّة إلى العرب قوم محمّد وبلسانهم، يجب أن تتوفّر فيه الميزات التي طلبها موسى من ربّه في سورة طه «قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي» (طه: 25 -28) الآية 25

هذه الميزة الأولى، تجلّت بوضوح في الآية الأولى من سورة الشرح «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» (الشرح: 1)

ثمّ الميزة الثانية «قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي» (طه: 25 -28) الآية 26 من سورة طه

وهذا اليُسر يتجلّى في الآية 97 من سورة مريم «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا» (مريم: 97)

بينما الميزة الثالثة هي حلّ عُقدة اللّسان، وعن الرسول تقول الروايات الإسلامية

كما جاء على سبيل المثال كتاب (عبقريّة محمّد) لعبّاس محمود العقّاد باتفاق تنزيه نُطقه من عيوب الحروف ومخارجها

وقُدرته على إيقاعها في أحسن مواقعها، ثمّ لا يقول شيئًا لا يستحقّ إليه السامع في موضوعه” انتهى الاقتباس

وفي سورة النجم يتجلّى حلّ العُقدة من اللّسان في أسمى حُلّته حين يقول في الآية 3 «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ» (النجم: 3)

أمّا فقه القول عند طلب موسى في سورة طه الآية 28 «قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي» (طه: 25 -28)

فالقُرآن الذي أتى به محمّد لقومه يسير المعنى وسهل اللفظ

فيدعوهم عدّة مرات للتذكير كما يتضح جليًا في تكرار 3 مرات في سورة القمر الآية 17 و22 و40 «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ» (القمر: 17 – 22 -40)

إذًا أصل الرسالة الإلهيّة التي أتى بها الرسول لقومه ليست باللغة العربيّة، وإنّما أصلها أعجميّ

ففُصلّت آياته ويُسِّرت بلسان عربي مُبين، كما جاء في سورة فُصّلت الآية 44 «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ …» (فُصّلت: 44)

أي لو كان القُرآن بلسان أعجمي، لاحتجّ عليه قومه بالقول: كلام أعجمي صادر عن عربي

فبفضل هذه البيان الذي أتى به الرسول في القُرآن لقومه،

جاء الردّ عليه عدّة مرّات منها الآية الخامسة من سورة الفُرقان «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (الفُرقان: 5)

وهنا يتّضح جليًا فهم قومه لما يقول، والقول بأنها أساطير الأولين «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (الفرقان: 5)

وهنا يُمكن فهم كلمة أساطير بمعنى خُرافة وخُزعبلات، ولكنّها في الأصل اللغوي يُفيد أنّها من جذر كلمة سطر، أي خطّ ورسَم،

ولهذا نجد على سبيل المثال الخط السرياني يُسمّى (استرنجيلو) أي سطر الإنجيل، بمعنى كتابة الإنجيل،

وبالتالي فالشق الثاني من الآية «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (الفرقان: 5)

أي خطّها، واستنسخها بعد سماعه لتلاوتها. «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (الفرقان: 5)

خُلاصة القول لما سبق تحليله، أنّ هذا القُرآن ابن بيئته نشأ في مُجتمع موحّد بالله من الناحية الروحية،

لكنّه عبارة عن فُسيفساء عقائديّة كاليهوديّة والمسيحيّة والنصرانيّة بمذاهبها المُتعدّدة

حيث تأثّر هذا النصّ القُرآني بالجدليات اللّاهوتية، ونقل لنا القصص والوعظ والإرشاد التي كانت في الأصل بلُغات أجنبية كالعبريّة والسريانيّة واليونانيّة وغيرها

استقاها الرسول من أفواه تربّوا وترعرعوا في ثقافات بلغاتهم الأصلية

فجادلهم وحاورهم، ثمّ نقل هذه المجادلات بلغات أعجمية إلى لغة عربية نقيّة صافية واضحة ثريّة، بأسلوب بلاغي جميل إلى قومه وأبناء جلدته العرب

وتحدّاهم أن يأتوا بنقاوة وصفاء هذا القُرآن، أو يأتوا بمثله كما يتّضح في الآية 88 من سورة الإسراء «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» (الإسراء: 88)

وبالتالي يكون هذا القُرآن عبارة عن منظومة فكرية عقائدية ساهم في تركيبها وصناعتها وتأليفها مجموعة من المؤثّرين، بطريقة مُباشرة أو غير مباشرة

فيكون ثمرة عمل مُشترك أيام حياة الرسول، وبعد موته لم يبقَ هذا القُرآن سجين العقول والصدور والحناجر

بل أصبح في عهد الخلفاء الأولين عبارة عن مُصحف مادّي شارك في صُنعه وتهيئته وتدوينه ثُلة من الرجال،

أخذوا على عاتقهم تقديمه ووضعه بين أيدي المُسلمين في حُلّة بهيّة شذيّة على قدر قُدرتهم واجتهادهم ومُستواهم المعرفيّ

ثمّ يتنافس المُتنافسون بعد ذلك في تقديم مصاحف أفضل وأحسن وأضبط ممّا جُمع في العصر البكريّ العُمريّ

لكنّ السياسة وتسير دفّة الحُكم في عصر الخليفة عثمان بن عفان يتطلّب توحيد الجهود وتركيزها في عمل واحد سُمّي باسم (مُصحف الإمام)

لكن هذا المُصحف عرف تغييرات بسيطة في نقله لنُسخ ولدت من رحمه، وهي مصاحف الأمصار

كلّ نسخة من هذه النسخ نشأت على إثر هذه التغييرات البسيطة

مدرسة للقراءات في ذلك أو في تلك الأمصار، وهي خمس مدارس(دمشق – بصر – الكوفة – مكة – والمدينة).

وقد نقلت مراجع إسلامية ومضات عنها كـ(المصاحف) للسجستاني و(المُقنع) لأبي عمر الداني، وغيرهما من المراجع التي تخص القراءات المختلفة والشاذة

في مدرسة الشام برز مُقرأ في أول القرن الثاني الهجري وهو ابن عامر الدمشقي

ثم بعد ذلك في مكّة برز ابن كثير، وفي الكوفة 3 قُراء بقراءات مُختلفة وهم: عاصم وحمزة والكسائي، وفي البصرة أبو عمر، وفي المدينة نافع

وذلك أصبح القرآن يقرأ بسبع قراءات مُختلفة، ظهرت كلّها في القرن الثاني الهجري

أضيفت لها 3 قراءات، ثم 4 إلى القرن الثالث الهجري،

وفي عصر الخليفة عبد الملك بن مروان نجحت الدولة الأمويّة في توحيد المصاحف وتسهيل قراءتها عبر تطوّر الخط العربي وتحسينه وإضافة ألفيّ ألف على القُرآن

ككلمتين قالوا وكانوا حيث لم تكن تُرسم ألف المدّ في وسط الكلمة وبعدها

في العصر العبّاسي أُضيفت النقط على حروف الإعجام، ثمّ التشكيل والهمز والزخرفة وعلامات الوقف،

وظهور هذه القراءات تزامن مع ظهور التجويد بشتّى أنواعه وسلاليمه الموسيقيّة

إلى أن أصبح هذا القرُآن في شكله النهائي، قطعة فنيّة جميلة أبدعتها أيادي السلف الصالح

إذًا نشأ القُرآن من مُجادلات لاهوتيّة بين الرسول وخُصومه قبل مؤيّديه

ثمّ جُمعت في آيات وسور شكّلت أساسيات المصاحف، وتوحّدت في مُصحف قانوني وهو (مصحف الإمام)

وتشكّلت قراءات عديدة أجمع عُلماء الإسلام على 14 قراءة رسمية أشهرها الآن قراءة عاصم من مدرسة الكوفة براوية حفص

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في حلقة مقبلة، فكونوا معانا.


Download text file

Early History of Islam 104

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً