التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 105 | الخريطة الدينية لأرض الحجاز عند ظهور الإسلام

أهلًا بالمُتابعين الكرام!

لقد قدّمنا سلسلة من الحلقات حول موضوع البيئة التي ظهر فيها القُرآن،

وأخر ما وصلنا إليه هو مُساهمة فريق من المُجادلين والمُحاورين للرسول

سواء من الخُصوم أو من التابعين له في تأليف التركيبة الأصلية للنصّ القُرآني

والتي ربّما دوّنت في البداية كما تُخبرنا السير والأخبار الإسلامية بطريقة عشوائية على مواد لم تصمُد أمام الزمن

ويبدو أنّ جزءًا صغيرًا منها حُفظ في الذاكرة الجماعية، نظرًا للظروف السائدة من قلّة الخبرة في مجال التوثيق، بعكس ما كان عند اليهود والمسيحيين، هذا من جهة

ومن جهة أخرى، الرؤية الظرفيّة التي كان الناس يعيشونها في تلك الفترة، خاصة فترة الصراع البيزنطي الساساني من بين سنة 614 إلى 628 ميلادية

والتي أدّت إلى ارتفاع الضرائب على الشعوب القابعة تحت الاحتلال، تارة البيزنطي وتارة الساساني

وأيضًا نُدرة تساقطات الأمطار زادت الوضعية تأزمًا، ممّا أدّى بدوره لقلّة المحاصيل الزراعية وانتشار المجاعات والأمراض المُعدية، كالطاعون، ثم أعقبتها حدوث زلازل ضربت الكنائس والأديرة

وبالتالي فكلّ هذه الظروف القاسية أعطت انطباعًا قويًا باقتراب الساعة بين قوسين (أخر الزمان)

نظرًا لاعتماد الثقافة الجماعيّة على الفكر الديني، فقط باعتباره أبو العلوم والمعرفة

ممّا عزّز فكرة ال Apocalypse والرجوع إلى الأسفار المُقدّسة والتي تتحدّث عن أخر الزمان ومجيء النبي الذي يفتح الطريق للمسيا، أو عودة المسيح الثانية

في هذا الجوّ المشحون ظهر الإسلام بعد انتصار مؤسّسيه العرب على البيزنطيين

وعندما ننظُر للخريطة الدينية للجزيرة العربية في تلك الفترة، أي ما بين القرن السادس والقرن السابع الميلادي

نجد العقيدة المسيحيّة باختلاف طوائفها، وأقلية متنوّعة يهودية، تُطوّق هذه الجزيرة من كلّ النواحي

ففي الشرق عند الخليج كانت العقيدة النسطورية تسود هذه المنطقة،

وفي الشمال ساد النفوذ المالكي البيزنطي حاليًا هم الروم الأرثوذكس

وكذلك في الغرب، غرب البحر الحمر الكنيسة القبطية بين قوسين (الأقباط الأرثوذكس) وفي الجنوب يوجد النفوذ الحبشي، الأحباش الأرثوذكس.

الأدلّة الأثرية أكدّت هذا التواجد المسيحيّ في تلك الفترة مؤخّرًا

حيث عُثر على آثار كنائس وأديرة تشهد على هذا التوزيع الديني،

ففي منطقة الخليج عُثر على آثار كنائس وأديرة نسطورية، تعود للقرن السابع الميلادي كانت موجودة مُنذ أكثر من قرنين

فيُخبرنا كل من الأستاذ الفرنسي Robin Christian Julien والأستاذة Muriel Debue  سنة 2015 م بنقاط توزيع هذه الآثار المسيحيّة في منطقة الخليج

كقبائل بني ياس في الإمارات، وبيت قطرايا والمليحات بقطر، والقصور بالكويت، وكذلك في جنوب المملكة السعودية بنجران، وفي اليمن كنيسة صنعاء القُليس

في ظلّ هذه التواجد الكثيف للعقيدة المسيحيّة بكلّ أطيافها ومذاهبها، ويهودية متنوّعة

وهي بقايا عقيدة موساويّة على الأرجح نزحت من اليمن تقريبًا ما بين 380 ميلادية بداية اعتناق مملكة حميَر للعقيدة اليهودية إلى سنة 525 ميلادية وقت حملة مملكة أكسوم بين قوسين (الأحباش) والقضاء على هذه المملكة اليهودية

إذًا كيف يُمكن وجود وثنيّة مُنعزلة عند رُكن نائي من هذه الجزيرة في منطقة مكة الحالية؟

فالنصّ القُرآني لا يشهد لهذه الوثنية بتواجد في فترة ظهوره، بل يُقدّم لنا نظرة مُختلفة عما جاءت به الرواية الإسلامية

فكما قُلنا في الحلقات السابقة: القُرآن يمُرّ مرور الكرام على أصنام العرب وذلك في سورة النجم حيث ذكر اللّات والعُزّى ومناة

وأشار إلى نقطة مُهمة جدًا ربّما لم ينتبه لها الشيوخ والفقهاء

عندما يقول في الآية 21 «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَىٰ» (النجم: 21) بمعنى أنّ هذه الآلهة لم تعُد مُستقلة ذاتيًا في تقديسها وتعظيمها وعبادتها عند العرب

بل أصبحت شريكة لله بصفتها بناتًا له، كان الآباء والأجداد يعبُدونها ويُقدّمون القرابين والذبائح لها

وهم من سمّونها بهذه الأسماء كما تدُلّ الآية 23 من سورة النجم «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ» (النجم: 23)

وبالتالي، المُجتمع الذي ظهر فيه الرسول له عقيدة مبنيّة على التوافق كمرحلة انتقالية من الوثنية نحو التوحيد

خاصة عندما يشهد لهؤلاء العرب بمعرفتهم بالله كخالق لكلّ شيء، كما تُفيد الآية 38 من سورة الزمر «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ …» (الزمر: 38) إلى أخره…

وكمرآة لمُجتمعه يعكس القُرآن هذه الثقافة العربية في مرحلة البينين، من الوثنية إلى التوحيد

فعلى سبيل المثال نجد في أسلوب القسم للتأكيد والتوكيد، أنّ العرب كانوا ولا يزالوا يحلفون بالأشياء العظيمة

وقد تأثّر القُرآن بهذه الثقافة وذلك ظاهر في عدّة آيات للقسم منها النجم الشمس والقمر والضحى والليل والبلد وغيرها…

كذلك نجد صدى لهذه الثقافة في الشعر الجاهلي، كما يُفيد كتاب (المُفصّل لتاريخ العرب قبل الإسلام) الدكتور جواد علي

حيث يقول زهير بن أبي سلمة “فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله/ رجال بنوه من قريش وجرهُم”

ويقول الأعشى وهو يمدح النُعمان بن المُنذر: “لعمرُ الذي حجت قريش قطينه/ لقد كدتهم كيد امري غير مُسند”

والنُعمان هذا كان من المسيحيين النساطرة، عاش في القرن وبداية القرن السابع الميلادي

فرغم أنّ الحلفان في العقيدة المسيحيّة لا يجوز، كما هو جليّ في إنجيل متّى إصحاح 5 عدد 34 «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ» (متى 5: 34)

إلّا أنّ العرب بكلّ دياناتهم ومذاهبهم اعتادوا على الحلفان في تأكيد الأشياء، وهي عادة اجتماعية للهروب من التبرير والتأكيد على صدق الكلام

فكما قُلنا: انتهت عبادة الأصنام في القرن السادس الميلادي في الجزيرة العربية بشكل تعبُّدي

وتحولّت لشكل رمزي تقديسي عند مجموعة بسيطة باعتبار هذه الآلهة السابقة بنات لله خالق الكون

وهذا التحوّل تدريجيّ، نجد مثلًا له في تحوّل العبارة اللّاهوتية “بسم الرحمن وابنه كريستوس المُنتصر والروح القُدس”

كما جاء في أخر السطر نقش بالخط المُسند الموجود في متحف إسطنبول تحت رقم Ist 7608 Bis

يقول النصّ: “بسم رحمنان وبنو كريستوس غليبان” انتهى المقطع الذي يعود لعصر الملك الأوّل بعد غزو الأحباش وهو القائد أرياط كما تُسمّيه المصادر الإسلامية (تاريخ الطبري) (تاريخ اليعقوبي) (تفسير السمرقندي) في اقرن الرابع الهجري وغيرهم

فأصحبت هذه العبارات أو هذه العبارة اللّاهوتية في عصر أبرهة أبرهموس زمبام على نقش بالخط المُسند الذي وجد في مأرب ويعود لسنة 548 ميلادية

تحت رقم CIH 451 يقول النص “بقوة وعون الرحيم الرحمن ومسيحه وروح القُدس”

ولكن كلمة ابن في النقش الأوّل تحوّلت إلى كلمة مسيحيه، وبقيت هذه الكلمة تقصد أو يُقصد منها السيد المسيح

حتى مجيء الإسلام وتبنّيه لهذه الكرستولوجيا في الآية 171 من سورة النساء «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا» (النساء: 171)

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء في الحلقة المُقبلة!


Download text file

Early History of Islam 105

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً