التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 110 | كعبة القدس وحرم مكّة

أهلًا بالمُتابعين الكرام!

وصلني سؤال من أحد المُتابعين من سوريا يقول فيه: أستاذ محمّد المسيّح، هل ممكن أن توضّح لنا الفرق ما بين الكعبة والحرم؟

لقد مررت على هذا الموضوع مرور الكرام في إحدى الحلقات، ولم تُقدّم لنا لماذا قلت حرم مكّة إشارة إلى الكعبة بمكة، وكعبة صخرة إشارة لقبّة الصخرة بالقُدس، هل من توضيح؟

أولًا: أشكر السائل الكريم على هذه الوقفة التأمُليّة! هذا إن دلّ على شيء إنّما يدُلّ على تتبع الحلقات بتركيز عالي واهتمام كبير،

تحية له ولكل من يتابعنا بمقترحات وإرشادات وتعليقات!

لقد سبق وأن وضّحت مسألة الكعبة من الناحية الفلولوجية، فالكعبة ليست شيئًا مربّعًا كما يعتقد المسلمون وغيرهم، ممن اعتادوا تصوّر الكعبة على أنّها مربعة الشكل تقريبًا.

نُلاحظ وجود حرف العين وسط الكلمة (كعبة) وحرف العين لا يُنطق في الكثير من اللّغات،

وتحوّل إلى همزة في النطق ككلمة عمر Omar أو على Ali أو عيسى Issa أو تُدغم في الحرف الذي قبلها

نقول على سبيل المثال، ما رأيت فلانًا قطًا، معناها ما رأيت فلانًا قطعًا،

وفي القرآن نجد الآية 16 من سورة ص تقول: «وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ» (ص: 16)

كلمة قطّنا في الأصل قِطعنا، بمعنى نصيبًا، كما جاء في سورة القصص الآية 77 «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا …» (القصص: 77)

وبالرجوع إلى التفاسير، نجد الطبري على سبيل المثال يقول: والقطّ في كلام العرب الصحيفة المكتوبة.

وهذا الطرح، قدّمه الطبري تحت تأثير الآية 19 من سورة الحاقة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ …» (الحاقة: 19) إلى أخره.

وإلى تأكيد ما ذهب إليه قدّم لنا بيتًا شعريًا للأعشى، ثمّ ذكر أقوال بعض الصحابة كابن عبّاس ومُجاهد، قالوا: “قِطّنا أي عذابنا”

والسؤال المطروح كيف يطلب شخص التعجيل بعذابه، خاصة يوم القيامة كما تدُلّ الآية؟

ونقل لنا قول قتادة حيث قال: قِطّنا أي نصيبنا وحظّنا؟

وهذا هو المعنى الذي يوافق سياق النصّ من الناحية الفلولوجية

وبالرجوع كلمة كعبة، فيُدغم حرف العين في الحرف الذي بعدها حرف الباء، فتُصبح الكلمة كُبّة، ككُبّة الصوف مثلًا

الكبّة يُمكن قلبها قاف، فتُصبح الكلمة قُبّة، أي شيء مدوّر،

لي أصدقاء فلسطينيين تحية لهم! يقلبون القاف كاف، يقول أحدهم: أي كلبي على ها المصيبة، أو الأخر يقول: لو متبطلش تحكي على الإسلام هكتُلك.

وقولنا عبارة «وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا» (النبأ: 33)، ما معنى كواعب؟

وهل هي مربّعة الشكل؟ كذلك كعب الرجل مدوّر الشكل.

كما جاء في سورة المائدة الآية 6 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ …» (المائدة: 6)

واسم كعب عند العرب ككعب الأحبار، وأبيّ بن كعب هو الرجل القصير والسمين مدوّر الشكل،

والسمنة في ذلك العصر لم تكن عيبًا بل بالعكس علامة على الغنى والثراء

فقبّة الصخرة بالقُدس هي كعبة بإدغام العين وإبدال القاف بالكاف

وكما يظهر من خلال شكلها المعماريّ، مُثمّن لها 8 أضلاع، Octagon، ثلاثي الأبعاد

بينما الكعبة في مكّة في شكلها الهندسي تقريبًا مربّع ثلاثي الأبعاد

وهذا ما يُسمّى بالحرم، وليس كعبة، جاءت تسميته من اللغة الآرامية حرم بمعنى حرم منع نفي قطع عن الشرك.

وهذا التفسير مبني على مفهوم الطقس الديني، فكلمة حرم، معناها مكان مُقدّس مُحرّم على البشر دخوله إلّا بشروط

ففي التوراة سفر اللّاوييين الإصحاح 16، وصية عدم دوخل أي أحد لقُدس الأقداس داخل خيمة الاجتماع، فقط الكاهن الأكبر لرشّ دم ذبيحة الكفّارة في عيد الفصح، وهو اليوم الوحيد خلال السنة يُقام فيه هذا الطقس،

وهذا التحريم انتقل عبر التقليد الكنائسيّ فلا يُسمح للمرأة أو غير المؤمن بالدخول للهيكل في الكنيسة،

كما يُمكن استنباطه من رسالة بولس، تيموثاوس الأولى الإصحاح 2 العدد 12 «وَلكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ وَلاَ تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ» (1 تيموثاوس 2: 12)

وربّما التقليد في منع المرأة أو غير المؤمن بالإسلام إلى داخل كعبة مكّة

بموجب آية قُرآنية فيما يخُصّ غير المُسلم، وذلك في سورة التوبة الآية 28 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (التوبة: 28)

وحديث حسن صحيح فيما يخُصّ النساء في سنن أبي داود والنسائي والترمذي يقول: “قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (صلّ في الحجر فإنه من الكعبة -أو من البيت -)”

فالسؤال المطروح، لماذا الرسول لم يُجز لعائشة أو أي إمراة الدخول والصلاة داخل الكعبة، وأجاز لها الصلاة في الحِجر؟

الحِجر هو حِجر إسماعيل فشكله نصف دائري، وبالتالي هو الكعبة الحقيقة من الناحية الفلولوجية

أمّا الحرم، فهو البناء الذي يُسمّى الآن بالكعبة، فهو مُحرّم على المرأة وغير المُسلم

وربّما يسأل السائل: أليس الكعبة هي البيت الحرام نفسه كما جاء في سورة المائدة الآية 97 «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ …» (المائدة: 97)

نعم هذا إن كان الحديث عن البيت المُحرّم الذي يُقدّم فيه الهدي والقلائد.

فالهدي مفهوم من خلال هذه الآية، والآية التي في سورة البقرة، الآية 196 «…فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ…» (البقرة: 196)

فالهدي هي الذبيحة التي تُقدّم للحرم أيام الحجّ والعمرة، وهي أنواع من الذبائح يجوز ذبحها

وهي التي نهى القُرآن عن صيدها وقت الإحرام بموجب الآية التي قبلها المائدة 96 «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (المائدة: 96)

أمّا القلائد فهي نوع خاص من الهدي، ولهذا ارتبطت الكلمتين الهدي والقلائد ببعضها للدلالة

فهي الذبائح التي تُقلّد بقلائد خاصة مكتوب علها نوع الذبيحة التي تُقدّم إلى الله ويرش دمها داخل الحرم بين قوسين (قُدس الأقداس) من طرف كبير الكهنة

أو الذبيحة التي تُقدّم إلى عزازيل كما جاء في سفر اللاويين الإصحاح 16 العدد 8 «وَيُلْقِي هَارُونُ عَلَى التَّيْسَيْنِ قُرْعَتَيْنِ: قُرْعَةً لِلرَّبِّ وَقُرْعَةً لِعَزَازِيلَ.» (اللاويين 16: 8)

وقد سبق مُنذ قليل الإشارة إلى اللّاويين 16 في حُرمة قُدس الأقداس

إذا الموضوع مُرتبط ببعضه البعض، ولا دخل لقلائد للحجّ، فيما يُسمّى الجاهلية

فالطبري يقول: “وكان الرجل إذا أراد البيت تقلّد قلادة من شعر، فأحمته ومنعته من الناس”

الإشكالية في هذا التفسير أنّ القلائد جعلها الله من شعائر الحجّ، كما هو واضح في أوّل الآية، سورة المائدة الآية 97 «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (المائدة: 97)

فما دخل هذا التفسير بالهدي وشعائر الحجّ؟

قبّة الصخرة هي كعبة بشكلها الهندسي، ثُماني الأضلاع ثلاثي الأبعاد،

وهي أي كعبة الصخرة الوحيدة التي هي كعبة وفي نفس الوقت البيت الحرام، لأنّ القبّة بُنيت فوق مكان قُدس الأقداس لهيكل بني إسرائيل

وبالتالي الوصف جاء دقيقًا، «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ …» (المائدة: 97)

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 110

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً