التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 112 | تهجير الرسول من أرض العراق

أهلًا بكم أعزّائي الكرام!

في الحلقة الماضية، وفي إطار سلسلة من الحلقات لمُناقشة ودراسة تاريخية مكّة،

قدّمنا مجموعة من المؤرخين، والقادة العسكريين الذين تحدّثوا عن بلاد العرب، أو زاروها ابتدأ من القرن الخامس قبل الميلاد إلى بداية القرن السابع قبل الميلاد

ولم نجد أي ذكر لمكّة في كتبهم وخرائطهم وتركنا المجال للمؤمنين بتاريخيّة مكّة لتقديم أي خبر أو مرجع يتحدّث عن مكّة، يعود لما قبل القرن الثامن الميلادي

وأتمنّى أن يوفّقوا في هذه المهمّة الصعبة، لأنّها كالبحث عن إبرة وسط محيط،

أقصد بها مكّة في التاريخ ما قبل الإسلام، وفي انتظار ذلك طرحنا سؤالًا مهمًا: أين تقع مكة الحقيقيّة مسقط رأس الرسول محمّد بن عبد الله؟

والتي عاش فيها أكثر من نصف قرن من حياته، في ظلّ الغياب التام لتاريخ مكّة الحالية

الجواب جاء صراحة وبكلّ وضوح في الحولية البيزنطية العربية، ما بين سنة 741 و754 ميلادية

وللتوضيح فعندما نقول كلمة حولية بين قوسين معناها (تدوين وكتابة أهم الأخبار لحولٍ كامل)، أي أخبار سنة كاملة.

تذكُر هذه الحولية: أنّ محمدًا عاش في مكّة ما بين أور كلدان، وبلاد ما بين النهرين، أي على أرض العراق،

وهذا غريب، لكن عندما نجد شهادة أخرى من أحد المطارنة للكنائس الشرقيّة، وهو شمعون مُطران روارد شير يتحدّث عن محمّد كقائد هرطقة وأتباعه من الأحناف والعرب.

ونعته بالغاوي في عصر البطريرك يشوعياب الثالث الذي توفّي سنة 659 ميلاديّة

ويُحدّد موطن هذا الغاوي بمنطقة رازان بين قوسين (منطقة في الجنوب الشرقي للمدائن عاصمة الساسانيين)

وتحدّث شمعون هذا عن نوعين من العرب، أعطاهم الله السلطان على حُكم بلاد الفُرس والعراق في تلك الفترة

فأثنى على مجموعة من العرب، لأنّهم يمدحون عقيدة الكنيسة الشرقية، ويحترمون القدسين والرهبان، ويُساعدون الكنائس والأديرة

ومجموعة أخرى من الأحناف، بقيادة صاحب هرطقة، اقتلعوا الكنائس من جذورها،

وفرضوا على الشعوب المُستعمرة التخلّي عن نصف مُمتلكاتهم مُقابل الاحتفاظ بإيمانهم

وقبل أن ننتقل للنقطة الأخرى، لاحظ أحد المُتتبّعين، من خلال المرجع الذي قدّمته، وجود كلمة أحناف في مُقابل كلمة وثنييون، وتساءل عن معنى هذه الكلمة

فبحسب الموروث الإسلامي هم جماعة موحّدون بالله، كورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نوفيل وأميّ بن أبي الصلت عفوًا،

والجواب هو أنّ هذا المرجع باللغة السريانيّة في الأصل، وكلمة حنيف تعني بالسرياني وثني كافر هرطوقي

نعود لما يهُمّنا وهو موطن هذا الغاوي بين قوسين (الحنيف) في رازان بالعراق حيث يوافق تمامًا مع ما جاء في الحولية البيزنطية العربية التي ذكرنها،

والغريب أنّ الكاتب لم يذكُر الإسلام كدين جديد

فقط الإشارة إلى هرطقة، ونحن نتساءل مرّة أخرى، أي نوع من الهرطقة يقصد المُطران شمعون التي أتى بها هذا الغاوي؟

الجواب نجده في رسالة Doctrina Jacobi حينما أخبر أبراهام كاتب الرسالة من فلسطين أخاه يعقوب في قرطاج

فيقول عن النبي الذي ظهر بين العرب بين قوسين (محمّد) أنّه ليس نبيًا حقيقيًا

وكذلك يدّعي امتلاك مفاتيح الجنّة، وهذه العبارة بالنسبة للمسيحيين ادّعاء خطير،

لأنّ مفهوم امتلاك مفاتيح الجنّة أو السماوات هو مفهوم لاهوتيّ، يعني أنّ من يملكها هو واحد من رُسل المسيح

الذين يحرصون مفاتيح الجنّة في تسلسل مُنذ الرسول بُطرس، وذلك في إنجيل متّى، الإصحاح 16 العدد 19 «وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاوَاتِ».” (إنجيل متّى 16: 19).

وهذا يعني امتلاك السلطة الرسوليّة والقيادة الدينيّة،

ولهذا السبب طُرد الغاوي بين قوسين (الحنيف) من منطقة رازان بالعراق، لأنّه ادّعى النبوّة، ووضع نفسه في القيادة الروحية والسلطة الدينية

وهذا بالطبع لم تسكُت عنه الكنيسة الشرقية قبل أن تقوى شوكته، بل تمّ طرده مُلحقًا بالعار، وبالعودة لمكّة في النصوص القديمة، كما قُلنا، فلا نجد لها أثرًا.

لكن موطن نبي العرب في هاذين المرجعين، فهو بالعراق،

هذا الطرح يُذكّرنا بالحلقة رقم 57 والتي تحدّثنا فيها عن قُريش قبيلة الرسول ومسقط رأسه

فبحسب الرواية التي قدّمها الأستاذ Alphonse Mangana نقلًا عن اللّاهوتي السرياني مار Narsal في القرن الخامس الميلادي،

التي تتحدّث عن هجوم أبناء هاجر على شمال العراق في تلك الحقبة

تقول الرواية: “كانت غارة أبناء هاجر أكثر قوّة حتّى من المجاعة… ولا سيما شعب قُريش الذين هم مثل الحيوانات.. إلى آخره” إلى أخر الرسالة

وقُريش كانت تعيش حسب هذه الرواية العراق في بيت عربايا بالعراق.

 إذًا 3 مراجع قبل الإسلام تُشير لموطن الرسول الأصلي بالعراق

حسنًا، هناك من سوف يتساءل عن تقديم هذه المعلومات الجديدة، في حين كنت أقول: بأنّ محمّد عاش في منطقة أرابيا بتريا،

وهي منطقة شاسعة حكمها الأنباط تضمن سيناء وشمال السعودية والأردن وفلسطين

فالقول بوجود النبي محمّد في منطقة أرابيا بيتريا يدعمه بقوّة السياق الجغرافي الموجود في القُرآن

لأنُه يُشير في خطابه لخُصومه لقُرب سكناهم من منطقة أهل لوط، بين قوسين (سدوم وعمورة)

وذلك في سورة الصافات الآية 137 – 138.

والمُجتمع الذي يُخاطبه مُجتمعًا زراعيًا، كما جاء في سورة الواقعة الآية 63 و64 «أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» (الواقعة: 63 -64)

وكذلك في سورة المؤمنون الآية 19 «فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ» (المؤمنون: 19)

وسورة الأنعام 136 «وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ» (الأنعام: 136)

بالإضافة لمجاورة البحر كما جاء في سورة الجاثية الآية 12 «اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (الجاثية: 12)

وكذلك لقمان 31 «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» (لقمان: 31)

إذًا، كما قلت عاش محمّد مُتجولًا في هذه المنطقة، بحسب الظروف السياسية والدينية لتلك المنطقة

أمّا مسقط رأسه فالآية تقول «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ» سورة (محمد: 13)

تُظهر الطّرد المُخزي الذي تلقّاه محمّد من أهل قريته، وهلاكهم كان على يد محمّد عندما قويت شوكته،

كما رأينا في شهادة شمعون مُطران راوارد شير بقوله عن الغاوي بين قوسين (الحنيف) “اقتلع كنائسكم من جذورها”

وهي كذلك إشارة لقتالهم في سورة الممتحنة الآية 9

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء في الحلقة القادمة، فكونوا معانا!


Download text file

Early History of Islam 112

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً