التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 116 | أصل الأحرف السبعة في القرآن

أهلًا بالمُتابعين الكرام!

بعد ما قدّمته في الثلاث الحلقات الأخيرة عن القُرآن فيما يخُصّ مادة الفيلولوجيا وخصائص تكوينه، والتوصل إلى نتيجة مفادها أنّ القُرآن هو كتاب القراءات والفصول Lectionarium / Lectionarius

بدليل أنّه يحتوي مقاطع من الكتب المُقدّسة السابقة له، ووجود كلمات لوتورجيّة لها نفس المعاني قد وردت في هذه الكُتب

بالإضافة إلى وجود تشريعات جديدة، أو أنّه أقرّ بعض تشريعات هذه الكتب المُقدّسة.

والتفاعُل المُباشر مع المُجتمع الذي جاء فيه القُرآن، من خلال ما ورد فيه من تساؤلات بين قوسين (يسألونك عن كذا)

لقد بعث لي بعض المُشاهدين والمُتتبّعين عفوًا بسؤال عن علاقة القُرآن بالقراءات والفُصول

والقراءات المُختلفة المعروفة بين المُسلمين بالقراءات السبع والقراءات العشر الرسميّة المُتداولة بينهم

وهل المقصود بها قراءات الفُصول أم لا؟ وحبّذا لو تُحدّثنا عن هذه القراءات المُختلفة وعلاقتها بالأحرف السبعة.

وهل ظهرت في عصر الرسول، أم هي نتيجة لبدائيّة الحروف أو الحرف العربي في فترة ظهور الإسلام؟

هذه الأسئلة مُهمّة، أشكُر كلّ من ساهم في طرحها وساعد في تسليط الضوء على مواضيع غير واضحة لشريحة كبيرة من المُجتمع المُسلم

عندما نقول: القُرآن هو كتاب قراءات وفصول Lectionarium / Lectionarius فهذا يعني كما قُلت قراءة مقاطع من الكتب المُقدّسة السابقة بمُناسبة ذكرى سنوية لقصة مُعيّنة

على سبيل المثال: قصة موسى وصيام عاشوراء، فاليهود بحسب التوراة يصمون اليوم العاشر من رأس السنة العبريّة روش هاشانا، ويُسمّى يوم كيبوت، يوم التكفير والغُفران

تطبيقًا لوصية التوراة في سفر اللّاويين الإصحاح 16 من العدد 29 إلى 34

حيث جاءت الإشارة إليه في سورة البقرة الآية 183 تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 183)

فبحسب المراجع الإسلاميّة فإنّ الرسول محمّد كان شديد الحرص على صيام عاشوراء

ويوافق اليوم العاشر من رأس السنة الهجريّة، وقد جاء في (صحيح البخاري) عن ابن عباس قال: “قَدِمَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ، فرأى اليَهُودَ تصوم عَاشُورَاءَ بين قوسين (العاشر من روش هاشانا) فقال: ما هذا؟ قالوا هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى، قال: فأنا أحقّ بموسى منكُم، فصامه وأمر بصومه”

فهذا يعني أن رأس السنة العبريّة يوافق تمامًا رأس السنة الهجرية في عصر الرسول إلى أن طبّق المسلمون حذف أيام النسيء بحجّة تحريمه في سورة التوبة الآية 37 «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (التوبة: 37)

هذا بالنسبة لأهل السنة، أمّا عند الشيعة فعاشوراء لا تُمثّل لديهم يوم احتفال بعكس السنة

لأنّه يوم مقتل الحسين بن علي في معركة كربلاء الشهيرة،

والامتناع عن شرب الماء عندهم يرمز لمقتل الإمام الحسين في هذه المعركة، وهو يوم مُقدّس كذلك عندهم

كما تُلاحظون فالقُرآن كتابة قراءات وفصول ولا يعني بها قراءات النصّ على أوجه مُختلفة كقراءة ابن عامر الدمشقي أو ابن كثير أو عاصم أو غيرهم من القُرّاء

فقراءة هذه الفصول هي قراءات من لغات أخرى بلسان عربي، كما رأينا في الحلقة الماضية كمثال عبارة إنجيل يوحنا الشهيرة «الحقّ الحقّ أقول…» الإصحاح الخامس العدد 24 (يوحنا: 5: 24) باللغة اليونانية

حيث جاءت في سورة ص الآية 84 «قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ» (ص: 84) بلسان عربيّ مُبين

أظنّ أنّ المعنى اتّضح هنا من خلال هذه الأمثلة، أمّا فيما يخُصّ القراءات المُختلفة من النصّ القُرآني والأحرف السبعة، فهذا موضوع أخر، نتج حسب رأيي عن الحالة التي دوّن بها القُرآن في بداية جمعه.

وقبل أن نتحدّث عن تفاصيل هذه الحالة، يجب التطرّق لنقطة مُهمّة وتوضيحها لمُساعدة المُشاهد على فهم بعض الخلط الذي يحصل أو يقع بين القراءات السبع والأحرف السبعة

نبدأ بمفهوم الأحرف السبعة، هناك حديث في الصحيحين عن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفُرقان، فاحتكما للرسول الذي أقرّ لها بصحّة القراءتين، ثمّ أضاف بين قوسين

“سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.

إذًا نحن أمام قراءة شفاهية من صحابيين أمام الرسول أقرّ بقراءتيهما ولم تُخبرنا عفوًا المراجع الإسلامية عن نوع الاختلاف

لهذا اختلف علماء الإسلام في المُراد بالأحرف السبعة، وصل إلى 35 قولًا

من أشهرها القول بأنّ المُراد بها “سبع لغات متفرّقة في القُرآن العظيم، فبعضه بلغة قُريش وبعضه بلغة هُذيل، وبعضه بلغة هوزان، وبعضه بلغة اليمن، وكذلك سائر العرب، وليس المراد أن يكون في الحرف الواحد سبة أوجه”

طبعًا كلمة لغات هي استعارة فقط، وإنّما المراد بها لهجات، فاللهجات العربية وحّدت فيما يُسمّى باللغة العربية

وبما أنّ القُرآن كتاب الفصول والقراءات كما قُلنا، هذه الفصول كانت في الأصل بلغات مُختلفة على رأسها اللغة العبرية واللغة اليونانية واللغة السريانية

وتيسيرها لا شكّ يعني قاراتها بلسان عربي، فبهذا التيسير أو الترجمة يُمكن قراءتها بلهجات عربية مُختلفة وبتعبيرات مُختلفة

فيختلف لفظ الكلمة من لهجة لأخرى، لكن المعنى لا يختلف،

ولهذا نجد في كتاب (الإبانة) للقيسي قول الطبري وهو يوافق تمامًا ما ذكرناه، “الأحرف السبعة التي نزل بها القُرآن إنما هي تبديل كلمة في موضع كلمة”

وهذا القول له ما يؤكّده نسبيًا في مخطوطات القُرآن القديمة، وعلى رأسها طرس صنعاء DAM01-27.1 حيث تختلف الكثير من كلماته عن كلمات المُصحف الذي بين أيدينا

فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد في سورة التوبة الآية 73 «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (التوبة: 73)

يُقابلها في النصّ السفلي لطرس صنعاء الرقعة 16 وجه Folio 16r (ومأواهم النار)

إذًا المُصحف الذي بين أيدينا جاء بالكلمة جهنّم، على أصلها في اللغة العبريّة جوهانوم.

بينما في طرس صنعاء الكلمة بين قوسين (النار) جاءت بلسان عربي مبين

ولعل ظهور مصاحف مختلفة عديدة لبعض الصحابة كعبد الله بن مسعود، أبيّ بن كعب، علي بن أبي طالب، وغيرهم في عصر الخليفة عثمان بن عفان

كما تُفيد العديد من المصادر الإسلاميّة، يُفسّر هذا الاختلاف بين المصاحف

خُلاصة القول: الأحرف السبعة لم يحسم في أمرها أو معناها جُلّ عُلماء الإسلام

وتركوها مفتوحة على باب الاجتهاد، وبالنسبة لي، واعتمادًا على علم الفيلولوجيا فهي تعني الترجمات المُختلفة المُمكنة بحسب اجتهاد صاحب القُرآن

وعندما قدّم عُمر بن الخطّاب القراءة التي حفظها من الرسول في سورة الفُرقان وأقرّ به الرسول

ما هي إلّا تيسير وترجمة أخرى قدّمها الرسول نفسه لهشام بن حكيم لنفس السورة

فتعدّدت الأحرف والرقم “سبعة لا يُراد به العدد بل إنّما على سبيل الكثرة والتسهيل، فلا خُصوصية للعدد… والله أعلم» انتهى الاقتباس.

كما جاء في (القراءات والأحرف السبعة) للغفاري،

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء، لتكملة الموضوع في الحلقة القادمة، فكونوا معنا!


Download text file

Early History of Islam 116

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً