التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 117 | القراءات المختلفة وعلاقتها بالقرآن

تحيّة لكُم مُتابعينا الأفاضل!

في الحلقة الماضية تحدّثنا عن مفهوم الأحرُف السبعة في القُرآن، وعلاقتها بالنصوص المُقدّسة السابقة.

خرجنا بنتيجة مفادها أنّ عُلماء الإسلام احتاروا في تحديد مفهوم الأحرُف السبعة، واختلفوا فيما بينهم على ما يُناهز ال 35 قولًا.

وبالرجوع إلى حيثيات ظهورها أيام الرسول على إثر إقراره قراءات مُختلفة لبعض الصحابة، كعُمر بن الخطّاب، وهشام بن حكيم،

تبيّن لنا أنّ هذه القراءات المُختلفة ليست بحسب النُطق فقط وإنّما تعدّها للرسم أيضًا،

وبالتالي: طرس صنعاء يُعتبر شاهدًا على هذه الظاهرة التي ربّما تكون إحدى هذه القراءات وافق عليها الرسول رغم اختلافها

ثم وضّحنا أنّها لا تُخالف المعنى الإجمالي للنص، ولكن فقط تيسير لما كان عليه الأصل في الكتب السابقة إلى لسان عربي مُبين.

أمّا القراءات السبع للقُرآن فهي القراءات المُختلفة التي قُرأ بها قراء مشهود لهم بالكفاءة والشهرة في المدارس الخمسة للأمصار التي بعث إليها الخليفة عثمان بن عفان نسخًا من مُصحف الإمام بحسب الرواية الإسلامية،

والسؤال المطروح كيف ظهرت هذه الروايات؟ وهل توقّفت عند هذا العدد أم تعدّها إلى أرقام أخرى؟

قبل أن نرُدّ على السؤالين يجب التنبيه مرّة أخرى على كون اختلاف القراءات أيام الرسول بين الصحابة أنتجت لنا ما يُسمّى بالأحرف السبعة

ولولا فطنة عمر بن الخطاب، لما علمنا بوجود مثل هذه الأحرف، أم القراءات السبعة فسببها اختلاف القراءات لمصاحف الأمصار في عصر عثمان بن عفان كما قلنا

والرواية الإسلامية عفوًا تقول بأنّ الجمع الأوّل للقُرآن كان أيام الخليفة أبو بكر بإلحاح من عمر بن الخطاب

وذلك بسبب موت بعض حفظة القُرآن أثناء حروب الردة بحسب الرواية الإسلامية

وهو تعليل ابن الخطاب خوفًا من ضياع القُرآن، بموت كلّ حفظته

فأمر الخليفة أبو بكر زيد بن ثابت بجمع الُقرآن من الصحابة، شريطة أن تكون كل آية أو مقطع مكتوب على المواد البدائية التي كُتب عليها القُرآن في المرحلة الأولى

كالعظام، والعُسوب والرقاع، بالإضافة إلى وجود شاهدين عدلين سمعا هذا المقطع أو هذه الآية من الرسول نفسه

وتُفيد الرواية أنّ كلّ الآيات التي جمعها زيد استوفت هذه الشروط، باستثناء المقطع الأخير من سورة التوبة الآية 128 إلى الآية 129 «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (التوبة: 128 -129)

التي كانت عند صحابيّ واحد دون غيره، وهذا الصحابي هو خُزيمة بن ثابت،

ولتبرير هذا الاستثناء قيل عن خُزيمة أن الرسول شهد له بالقول بين قوسين (من شهد له خُزيمة، فحسبُه)

بمعنى أنّ شهادة خزيمة تكفي وتُعادل أكثر من شخص

فجُمع من القُرآن ما استطاع زيد بن ثابت جمعه في صحف مُفرّقة سميت بصحف حفصة،

وبعد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب، بقيت كإرث لابنته وزوجة الرسول حفصة

إذًا إلحاح عمر بن الخطاب على جمع القُرآن إذا سلّمنا بصحة الرواية معناه أن الرسول قبل موته لم يأمر أحدًا بجمع في مصحف

رغم الحروب الكثيرة التي خاضها هو أصحابه ضدّ أعدائه، وقد كان من المُحتمل أن يستشهد هو نفسه في هذه المعارك

كما أنّ الرواية لم تُقدّم لنا أسماء هؤلاء الصحابة من حفظة القُرآن الذين قتلوا في معارك حروب الردة سوى “سالم مولى أبي حذيفة”

واهتمام عمر بن الخطاب الشديد بالأمر يُفيد أن عددًا كبيرًا من الحفاظ قتلوا في هذه الحروب الداخلية

لقد جُمعت صُحف وقُتل عمر وتولّى عثمان بن عفان الخلافة، ولكن هذا الجمع لم يحلّ الإشكال بل زاد في الطين بلة اعتراض العديد من الصحابة على ما قام به زيد بن ثابت رغم صعوبته

فمنهم من طعن في كفاءة زيد وخلفيته، كعبد الله بن مسعود،

ومنهم من اكتفى بتدوين القُرآن حسب حفظه ومعرفته كأبي بن كعب،

ومنهم من دوّنه بحسب الترتيب الزمني لآياته ما يُسمّى عند الشيوخ بأسباب النزول كعليّ بن أبي طالب

ومنهم من دوّنه بحسب قربه من الرسول كعائشة أم المؤمنين

وهكذا ظهرت العديد من المصاحف على الساحة، وكلها تختلف فيما بينها،

ليس فقط على مستوى الأحرُف السبعة بل حتى على قبول سورة أو رفضها

 كما جاء عن عبد الله بن مسعود الذي رفض قبول سورة الفاتحة والفلق والناس

باعتبار الفاتحة دُعاءً يُقال قبل أن يعمل أو قبل أي عمل وعلى رأسها كتابة وقراءة القُرآن

أمّا سورتيّ الفلق والناس، فاعتبرها ابن مسعود مجرد تعويذة لطرد الشرّ والحسد

إذًا، ظهور هذه المصاحف في عصر عثمان يُفيد أنّ القُرآن لم يكن محسومًا في أمره

بل تُرك لاجتهاد الصحابة كلّ واحد حسب قدرته المعرفية

هذه الحالة أربكت المُسلمين فيما بينهم، فأي مُصحف يجب اتباع قراءته؟

لقد زاد الوضع تأزُّمًا برفع الجنود السيوف في وجه بعضهم البعض، وذلك لقبول هذا المصحف أو ذاك

مما استدعى تدخُّل الخليفة عثمان بنفسه لحل الأزمة، فأمر زيد بن ثابت بجمع القُرآن مرّة أخرى على رأس لجنة اختيرت لهذا الغرض

وبدأ بجمع المُصحف الرسمي للدولة بإشراف عام من الخليفة

ولهذا سُمّي هذا المصحف بمصحف عثمان بن عفان، الذي أمر بحرق بقيّة المصاحف

فنحن دائمًا في إطار ما قدّمته الرواية الإسلامية فيما يخُصّ جمع القُرآن

إذًا، المسألة سياسية، لوقف الصراع القائم بين الصحابة في مسألة جمع القُرآن

وليس مُهمًا إن كان مصحف بن مسعود، أو علي بن أبي طالب، أو عائشة أو غيرهم هو الصحيح

المهم هو استتاب الأمن، فبعد هذا التدخُّل المباشر من طرف الخليفة عثمان، دوّن الصحف الرسمي وأعطي له اسم (مصحف الإمام) الذي يجب على الجميع اتباعه

ثمّ قامت اللجنة بنسخ هذا المُصحف، ووزّعت نسخه على الأمصار

وهي كالتالي مُصحف دمشق، مُصحف البصرة، مُصحف الكوفة، مُصحف مكّة، مُصحف المدينة

وقيل كذلك، مُصحف لليمن، وأخر للبحرين، وبما أنّ اليمن والبحرين لم تنشأ بهما مدراس لقراءة القُرآن كسابقتها

فمن المُستبعد أن يكون الخليفة قد أرسل مصاحف لليمن والبحرين

لماذا نطرح هذا الموضوع؟ لأنّنا سوف نجد مدارس للقراءات المُختلفة في هذه الأمصار دون غيرها

ولتوضيح هذه المسألة، والتعريف بهذه المدارس الخمسة، وكيف ظهرت،

تابعونا في الحلقة المُقبلة، وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 117

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً