التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد

أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام.

في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب القراءات والفصول عند السريان، والأقباط والأحباش وغيرهم.

بألسنتهم كالقِريانا والأجبية ومُصحف صالوت.

وبالتالي، فمن الطبيعي أن يكون للعرب المسيحيّين قبل الاسلام،

نظامًا كنسيًّا يُحدّدُ القراءات والصلوات والابتهالات والترانيم لكلّ طائفة أو مذهب.

لِتتلو أوقاتَ القُدّاس الالهي، مكتوبةً في كتاب مثل هذه الكُتب التّي ذكرناها.

ولكن لسان عربيّ مُبين أو شفاهيًّا تقليديًّا محفوظًا في الصدور.

وبما أنَّنا لم نعثُر على أيّ وثيقة تؤكِّد وجود هذا الكتاب.

فالطرح الثّاني هو الأكثر ترجيحًا.

وهو أنَّ ظهور القُرآن في القرن السّابع الميلادي، ما هو سوى استدراكًا لتوحيد وتوثيق كتاب الفُصول والقراءات بلسان عربي مُبين.

وكما قولنا في الحلقة الماضية، فليس من المُستغرَب أن يُعيد القُرآن ويُكرِّر اثنتى عشرة مرَّة، بأنَّه بلسان عربي مُبين.

لو لم يكُن تقليدًا واستمراريّة لهذا النّظام الكنسيّ المعروف،

فلو كان كما يَعتَقِد الآن كلّ المُسلمينَ أنّهُ كتاب سماويّ، نَزل على محمّد ابن عبد الله بواسطة الرّوح الأمين بلسان عربي مُبين

ومؤسِّسًا لعقيدة جديدة وديانة توحيديّة لكلّ العرب.

لَما التفت لِما ما هو بديهي، أي أنّهُ بلساناً مكتوبٍ ومقروء، مقروء به.

فلو أخذنا التوراة على سبيل المثال،

نجد أو لا نجد أيّ إشارة لكونهِ بلُغة عبريّة. مادام هو في الأصل بهذه اللّغة.

وكذلك كلّ الكُتب المُقدّسة الأخرى.

مرّة أخرى، لو كان العرب وثنيّين، في مُعظمهم كما يعتقد جُلَّ المُسلمين،

والقُرآن جاء ليُحارب الشرك والوثنيّة في عقيدتهم.

لجاء القُرآن بلسان عربيّ دون أن يشيرَ لعربيّة لسانهِ ولو مرّة واحدة. وذلك لبديهيّة الأمر.

فتكرار الإشارة إلى عربيّة لسانهِ هو دليل قاطع، على أنَّ قومه، عرب موحّدون بالله على دين جدّهم إبراهيم الخليل.

ولهذا جاء مُعظم حديثهِ عن بني إسرائيل والأنبياء والنّصارى والمسيح وأُمّهُ،

لأنَّها لا تعني لهم شيئًا، إذا كانوا وثنيين.

إذًا، الأمر يختلف لو كان هؤلاء العرب موحّدين بالله،

إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وما التسميات الأخرى من يهود ونصارى، إلا تميزًا عن الأصل،

ومُحاجّة واهية بحسب القُرآن كون الله ربّ الجميع. كما جاء في سورة البقرة الآية ١٣٩ و١٤٠

«قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ…» (البقرة: 139 -140)

فهؤلاء العرب الّذين يُخاطِبَهم القُرآن كانت لهم عقيدة ومذاهب مُختلفة كلّها تنطوي تحت مظلّة الديانات الإبراهيميّة.

فقبل اعتناق معظمهم بالديانة المسيحيّة في القرن الرّابع الميلادي،

كانوا على نمط عقائديّ يُشبه كثيرًا العقيدة اليهوديّة.

فكما رأينا في إحدى الحلقات، بأنَّ بعض القبائل العربيّة،

كقبيلتيّ قيدار ونبايوت، من بني إسماعيل بحسب كتاب التناخ، في سفر إشعياء الإصحاح ٦٠ العدد ٧، «كُلُّ غَنَمِ قِيدَارَ تَجْتَمِعُ إِلَيْكِ. كِبَاشُ نَبَايُوتَ تَخْدِمُكِ. تَصْعَدُ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي، وَأُزَيِّنُ بَيْتَ جَمَالِي.» (إشعياء 60: 7)

وكذلك الإصحاح ٢١ العدد ١٦ «فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ لِيَ السَّيِّدُ: «فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ» (إشعياء 21: 16)

كانت تُقدّم الذّبائح لإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب في بيت إيل.

بيت هامقداش إلى غاية القرن الأوّل الميلادي،

وهذا إن دلّ على شيء إنمّا يدلُّ على كون هؤلاء العرب لهم عقيدة شبيهة بعقيدة بني إسرائيل.

وهذا ما يؤكّده المؤرّخ البيزنطي سوزومين (Sozomen)

قبل مُنتصف القرن الخامس الميلادي. أنَّ السراسين بين قوسين (العرب) عبيد سارة ابناء هاجر الزّوجة الثّانية لإبراهيم.

كانت لهم عادات وتقاليد كاليهود، مثل الخِتان، عدم أكل لحم الخنزير، والطّهارة وغيرها من العادات والتقاليد اليهوديّة.

وحتّى التّقويم السنوي هو نفسهُ الّذي يُعتَمَد.. يَعتَمِدُ عفوًا على رؤية الهلال وليس النظام الشمسيّ.

إذن كما رأينا في الحلقة التي تحدّثنا فيها عن عاشوراء، وعلاقتها بيوم الغفران كيبور عند اليهود.

فصاحب القُرآن حاول توحيد هذه المذاهب والديانات الإبراهيميّة بالعودة بها للأصل ولا أهميّة للتّسميات مادامت من مِشكاة توحيد واحدة.

مَلّة إبراهيم كما جاء في سورة البقرة الآية ١٣٥

«وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (البقرة: 135)

ولهذا دعاهم لهذه الوحدة مباشرةً في سورة العمران آية ٦٤

»قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ« (آل عمران: 64)

هذه الدّعوة لم تلقَ أي استجابة من أهل الكتاب، لأنَّ اليهود يعتقدون بأنَّهم شعب الله الُمختار.

ويشهد القُرآن على هذه النّظرة الدونيّة من اليهود للعرب، باعتبارهم أُمّييّن بين قوسين (أُمَمييّن).

كما جاء في سورة آل عمران الآية ٧٥.

«.…قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ…» إلى آخره.

أمّا بالنّسبة للمسيحيين الأمر يختلف لأنّ مُعظم العرب كانوا مسيحيّين. لكن دعوة مُحمّد اعتُبرت هرطقة لإنكارها أُلوهيّة المسيح.

ولهذا حاول التّقرّب منهم بالدّعوة للمُباهلة.

كما جاء في آل عمران، كذلك الآية ٦١

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ (المسيح) مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ.» (آل عمران: 61)

وبما أنّهم رفضوا التّخلّي عن عقيدة ألوهيّة المسيح، اعتُبروا من الكُفّار والُمشركين.

كما جاء في سورة المائدة الآية ٧٢

«… لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ…» (المائدة: 72) إلى آخره، وكذلك الآية التي بعدها «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (المائدة: 73)

إنَّ الرّفض التّام لدعوة محمّد من قِبَلِ أهل الكتاب لهذه الأسباب التي ذكرناها.

أنتجت تنافُرًا، وصل إلى حدّ العداوة في أخر المطاف،

باستثناء فرقة من النّصارى، وهم النّساطِرة، لقُرب عقيدتهم من دعوة محمّد.

لهذا جاء في الآية ٨٢ من نفس السورة سورة المائدة.

 «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ بين قوسين (المسيحيين) وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ بين قوسين (النساطِرة) ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة: 82)

إذًا، محمّد يَنذُر.. يُنذِر عفوًا قومَهُ العرب بما نزّله الله على قلبهِ.

ويدعو أهل الكتاب من يهود ونصارى ومسيحّيين بالرّجوع إلى إله إبراهيم دون شرك.

وما وقَعَ في قلبه بتأييد وإعلان من الرّوح الأمين. بين قوسين (الرّوح القُدس) بلسان عربي.

لأنّ أصلَهُ في كتب الأوّلين، وهذا ما تؤكّده سورة الشعراء في الآيات ١٩٢ إلى ١٩٦

«وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» (الشعراء: 192 -196)

وبالتالي، الموضوع ليس ظهور ديانة وعقيدة جديدة.

إنّما هي فقط إنذار ودعوة للعرب من محمّد بالرجوع لزُبُر الأولين بلسان عربي مُبين.

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في الحلقة المُقبلة.


Download text file

Early History of Islam 123

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 117 | القراءات المختلفة وعلاقتها بالقرآن
تحيّة لكُم مُتابعينا الأفاضل! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن مفهوم [...]
4 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً