التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 35 | الفرقة الأبيونية

 أهلًا بكم!

بدأنا الحديث في الحلقة الماضية عن الفرقة الأبيونيّة، ولم نُعرِّف بها،

فقد ظهرت هذه الفرقة منذ البدايات الأولى للمسيحيّة في القرن الأول الميلادي

فالكلمة من أصل عبري إبيونيم بالجمع معناها فُقراء

حيث اعتبرهم أباء الكنيسة المسيحيّة الأولى هراطقة، فرقة ضالّة وهم فقراء الفكر والمعرفة

وقد شاع عنهم هذا الاسم رغم أنهم بقوا على التسمية الأولى لأنفسهم بالناصريين Nazaraeans

وقبلوا لقب الأبيونيين لأنّهم اعتبروا أنفسهم فُقراء حقيقة، كما قال المسيح:

«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.» إنجيل (متى إصحاح 5: العدد 3)

وكذلك الإصحاح 11، العدد 5 «اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ.» (متى 11: 5)

وفي الزبور، المزامير «لأَنَّ الرَّبَّ سَامِعٌ لِلْمَسَاكِينِ وَلاَ يَحْتَقِرُ أَسْرَاهُ.» (مزمور 69: العدد 33)

وكذلك مزمور 70  العدد 5 « أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَفَقِيرٌ…» (مزمور 70: 5) يقول النبي داود أو «أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَبَائِسٌ…» في (مزمور 40: العدد 17)  ومزمور 74  «…الْفَقِيرُ وَالْبَائِسُ…» (مزمور 74: 21) وغيرها

فمبدأ طلب الآخرة عند الأبيونيين بدل من الدنيا، هذا المبدأ موجود بقوة في النصّ القرآني حيث جاء على سبيل المثال في سورة محمّد الآية 38 «…وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ…» (محمد: 38)

ونظرًا لقلّة المعلومات عنهم، عن هذه الفرقة أصبح من الصعب عند الباحثين تحديد هويّتهم ومعتقدهم بصورة قطعيّة

فلم نعثُر على أي كتابات مُباشرة لهذه الفرقة، لكن هناك من تحدّث عنهم كالقديس إيرينيؤس Irenaeus ليوني في نهاية القرن الثاني الميلادي

حيث كتب خمس كتب عن الهرطقات، كتب تلميذه “هيبوليتوس الرومي Hippolytus “

وكذلك القديس “يوسبيس القيصري”، ومطران قُبرص Epiphanius of  Salamus  إبيفانيوس السلاميسي في نهاية القرن الرابع الميلادي في كتاب (باراريون) عن الهرطقات وكذلك الأب “جيروم”، وغيرهم.

الأبيونييون هم فرقة من اليهود المسيحيين، ولودوا يهودًا أو اعتنقوا اليهودية يُطبّقون شريعة موسى من تقديس السبت والختان وأكل الكُشر يعني الحلال

ويعتقدون بأنّ المسيح يسوع هو المسيّا، اختاره الله لحمل رسالة الخلاص بالأعمال وتطبيق شريعة موسى

ليكون كذلك ابنه بالتبنّي، ويعتقدون أنّ هذه البنوة حدثت وقت معموديته عند يوحنا المعمدان

فسُمع صوت من السماء يقول «…أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.» كما جاء (مزمور 2: 7)

إذًا بالنسبة لهُم المسيح مُجرّد إنسان اختاره الله ليُخلّص اليهود، والأمميين الذين اعتنقوا تعاليم موسى،

لكن لا يؤمنون بألوهيته، وبمولده.. أو بولادته المُعجزة، فبالنسبة لهم المسيح ابن يوسف النجار وزوجته مريم أم يسوع

لا يؤمنون بالأناجيل الأربعة، بل بتعاليم يعقوب أخو يسوع الذي أصبح رأس أتباع المسيح في أورشليم بعد موته

كما رأينا في الحلقة السابقة، وكانوا يؤمنون بإنجيل شبيه جدًا بإنجيل متّى، بدون الإصحاحين الأول والثاني، واسمه إنجيل الناصريين أو العبرانيين أو الأبيونيين

كُتب باللغة الآرامية التي كان المسيح يتحدّث بها، ولم يأخذوا بتعاليم “بولس” الرّسول

بل كانت بينهم وبينه نزاعات كما يظهر من خلال أعمال الرّسل إصحاح 15 العدد الثاني « فَلَمَّا حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ وَمُبَاحَثَةٌ لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ مَعَهُمْ، رَتَّبُوا أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى الرُّسُلِ وَالْمَشَايخِ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ أَجْلِ هذِهِ الْمَسْأَلَةِ.» (أعمال الرسل 15: 2)

وتحدّث عنهم بكل وضوح في العدد الأول حيث يقول: « وَانْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ «إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى، لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا». (اعمال الرسل 15: 1)

فقد حارب الرسول بولس تعاليمهم، وإنجيلهم كما جاء في رسالة غلاطية الإصحاح الأول العدد 6 إلى العدد 8

«إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيل آخَرَ! لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ. وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»!» (غلاطية 1: 6 – 8) يعني ملعون

وفي الإصحاح الثاني العدد 16 و 21 على المائدة المُقدّسة لا يُقدّمون النبيذ كرمز لدم المسيح، وإنما الماء؛ لأنّه قال في إنجيل متى إصحاح 26: العدد 29

«وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي». (متى: 26: 29)

يعني شرب نتاج الكرمة يكون في الجنّة، التّشابُه الرهيب بين تعاليم هذه الفِرقة والإسلام نذكُر منها

القُرآن في سورة محمّد الآية 38 ينعت اتباعه بالفقراء الأبيونييون

يحُثّ أهل الكتاب على اتباع التوراة والإنجيل معًا كما هو موجود في سورة المائدة 66 والآية 68

كالأنبيونييون يحثّون على اتباع التوراة شريعة موسى وإنجيلهم وليس الأناجيل الأربعة

اعتبر المسيح إنسانًا اختاره الله لتقديم الرسالة لليهود نفس العقيدة عن الأبيونيين

أكل الكُشر الحلال في الإسلام تحريم الخمر والخنزير، وما ذُبح لغير الله تقديم ذبيحة في عيد الأضحى في الإسلام وعند الأبيونييون في عيد الفِصح

كذلك موضوع الخِتان، الخِتان سنة للرجال في الإسلام وواجب عند الأبيونيين

موضوع الغُسل من الجنابة والصلاة والصيام عندهم بحسب شريعة موسى

الأمر الوحيد الذي يُخالف الإسلام عند الأبيونيين هو الاعتقاد بولادة المسيح عن طريق المُعجزة،

وربّما نتج المفهوم عند أباء الكنيسة الأوائل التي تحدّثنا عنهم، عن عدم ذكر ولادة المسيح في إنجيلهم

ولهذا يُمكن القول أنهّم الفرقة المقبولة عند الإسلام حيث جاء في سورة آل عمران الآية 113

«لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ» (آل عمران: 113)

ولهذا نصح القُرآن محمّد بالرجوع إليهم إن كان لو شكّ في أتاه في «فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» (يونس: 94)

نكتفي بهذا القدر وإلى اللّقاء في الحلقة القادمة!


Download text file

Early History of Islam 035

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً