أهلًا وسهلًا بالجمهور الكريم!
لا زالت التّعليقات على سلسلة حلقات الحجر الأسود (بيتال) تتوالى بعد فترة من نشرها،
فنجد أحد السادة يسأل عن المنهجيّة العلميّة التي اعتمدت عليها في مُقارنة بعض الطقوس الوثنية، كالهندوسيّة والبوذية بطقوس الإسلام في مسألة الحجّ.
أولًا: ما قدّمته في هذه السلسلة هي نظريات موجودة على الساحة، ووضّحت مُقارنة طقوس الرهبنة في البوذية وعلاقتها بطقوس الحجّ في الإسلام أو بمعنى أصحّ في الجاهلية
فهي نظرية تعود للأستاذ “ماركوس جروس” كما سبق وأن أشرت
فتقديمها للمُشاهد الكريم من خلال علم الأنثروبولوجيا علم الإنسان أو علم الأنسنة،
فبالطبع هذا العلم حديث العهد، لكنّه يقُدّم لنا دراسة حول تطوّر الإنسان من خلال علوم مُختلفة، وما يهُمّنا هنا علم التاريخ وعلم الأديان،
ومعتمدين على أدوات علميّة مهمّة، كعلم المخطوطات والفيلولوجيا كما عودناكم على الحديث عنها
فعلم الأنثروبولوجيا يُقارن بين المُجتمعات البدائية المُتخلفة، والمجتمعات الحضارية المتقدّمة،
فعندما قارن الأستاذ “ماركوس جروس” بعض طقوس الرهبنة في البوذية والإسلام
كان الغرض منها تنبيه في الدرجة الأولى لتشابُه بين طقوس قديمة في البوذيّة، وطقوس حديث شيئًا ما في الإسلام
ولو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر، موضوع حلق الشعر للحاج في موسم الحجّ والعمرة، كواجب يقوم به عند نهاية مناسك الحجّ
لا يُقدّم لنا الموروث الإسلام الحكمة من هذه الشعيرة، سوى أنّها تُقرّب إلى الله بفعلها
وهناك من يعتقد أنّ الحاج في هذه الفترة رّبما يتعرّض لانتقال بعض الأمراض أو الحشرات من خلال احتكاكه ببعض الحُجّاج المرضى
ومعظم الفقهاء أفتوا بحلق الشعر أو تقصيره في حالة تذكّر الحاجّ أنّه نسي هذه الشعيرة وقت عُمرته على سبيل المثال
أو تقديم فدية ذبيحة، وهذا يدلّ على أنّها شعيرة مهمّة وليس الغاية منها النظافة فقط
لكن للأسف لا توجد حكمة محدودة تُظهر الغاية من القيام بها
فهذه الشعيرة موجودة في العقيدة البوذية أثناء الرهبنة والتعبُّد في معابدهم المقدّسة
والغاية منها كما قُلنا: هي التخلّي عن الجاه والرفاهية كما فعل “بوذا” نفسه عندما حلق شعره الطويل الذي يرمز للمُلك والجاه والدخول بحلقه في حالة الزّهد والتقشّف
وهي عادة قديمة جدًا توجد كانت عند كهنة ديانات القديمة قبل الديانة البوذية بكثير
فالشعر كما قُلنا: هو تاج فوق رأس أي مؤمن يجب تغطيته كما هو الحال عند السيخ أو حلقه في أماكن العبادات في الديانات القديمة
لوقوف المؤمن بخشوع وتواضع وهيبة أمام إلاهه.
فلو طبّقنا هذا الأمر على شعيرة حلق الشعر في موسم الحجّ والعمرة، فلا نجد أي تضارُب في العقيدة الأساسيّة مع هذا المبدأ
وخاصة لو علمنا أنّها طقوس كانت موجودة فيما يُسمّى بالعصر الجاهلي
فعلم الأنثروبولوجيا أو علم الأنسنة يفتح لنا مجالًا لمُقارنة الأديان وابعادنا على الأيديلوجية باعتبار هذه الشعيرة على سبيل المثال ليست أمرًا إلهيًا وإنما سلوك بشري للتعبير عن دخول في مكان مُقدّس أو مرحلة من التعبّد
والدراسة الأنثروبولوجيا للإسلام تكشف لنا عن أسرار كانت غائبة وراء الفكر الأيدلوجي الذي صنع لنا أو صنع لنا دينًا جديدًا من خلال ما يُسمى ب “أسطورة الأصل”
فكما عبّر المُتخصّصون في التاريخ المُبكّر للإسلام عن بدايته المُظلمة، لهذا جاء نعته بالثقب الأسود Black Hole
فتنشأ بعد قرنين من الزمان على ظهور الإسلام أسطورة أصله كإيدلوجيا متكاملة تُجيب على معظم الأسئلة التي يُمكن للمُسلم المؤمن التساؤل عنها
فعندما نقرأ القرآن النصّ المؤسّس للإسلام نجده فعلًا هناك إشارة لأحداث تاريخية لمرحلتين في القرن السابع الميلادي
مرحلة المعك والاضطهاد، تدعوا للسلم والرحمة والتفكير والتدبير لحتميّة الواقع
ومرحلة أخرى بعدها مرحلة التمدُّن والتمكُّن تتحدّث عن القتال والمواجهة ضدّ الأعداء مُرتبطة فقط بتلك الأحداث التاريخيّة
فيأدلجُلها البعض، بعض الشيوخ، فيما بعض لصالح أهدافهم الشخصيّة، ويصبغها بقداسة إلهيّة أبديّة، تحث المؤمن المسلم على القيام بها من أجل التقرّب إلى الله ونيل النعيم الأبدي
وبالتالي صناعة الفكر الجهادي أو ما يُسمّى بالفكر الإرهابي
وهذه فئة أصبحت مُعضلة بشرية يُفكّر العالم كله في مُحاربتها
والغريب أنّ معظم ضحاياها من المُسلمين أنفسهم
فيأتي الباحث الأنثروبولوجي يُقدّم لهذا المُسلم المُغرّر به، بيانات وتوضيحات عن أصل هذه العقيدة المُتطرّفة
ليُرجعها لسياقها التاريخي كي ينزغ عنها فتيل التطرّف والعُنف
ولو قامت في تلك الفترة حروب همجية بقتل إنسان لأخيه الإنسان واستعبدته فهي ربما مناسبة لعصرها
لكنها غير مقبولة الآن في عصر العولمة وتقارُب الإنسانية مهما كان صحابها يمتلك من قوّة وسلاح
ناهيك على أنّ المُسلمين لا يتملكون هذه القوّة والعلوم لمُحاربة الغير
إذًا لا مناص من الرجوع إلى النصّ المؤسّس وإعادة دراسته بموجب مستجدات العلوم الإنسانية والخروج من مأزق الجمود الفكريّ الذي دام عدّة قرون
فأثّر على تطوّر بلاد المُسلمين وجعلهم في الصفوف الأخيرة من التطوّر والتحضّر
لماذا يعيش مُعظم المسلمين الفقر والقهر وعدم حرية الرأي والتعبير؟
فالثورة على الحاكم ليست هي الحلّ للخروج من أزمة الأسلمة، وإنما الثورة الحقيقية على العقل المُتحجّر والخروج من عباءة الشيوخ وفقهاء البلاط
الذين يُريدون ترك المُسلم في تخلّفه ليسهُل السيطرة عليه من طرف رجل الدين والحاكم الديكتاتوري الذي يحكم القطيع بمُباركتهم والدّعاة إليه بالتمكُّن من رقاب رعيّته
نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في الحلقة القادمة، فكونوا معنا!
Download text file
You may also like
