أهلًا بالجمهور الكريم!
وصلني سؤال من أحد المُشاهدين يقول: أستاذنا الفاضل كنت قد تحدّثت في إحدى حلقات (التاريخ المُبكر للإسلام) عن رمزية إطار الحجر الأسود بيتيلوس
وقلت: إنّ الكعبة بناء دائري الشكل، رغم أنّنا نراه مُربّعًا، وقلت: إنّها ترمز للّات الإلهة الأم إلهة الخصب والجمال عند العرب
والحجر الأسود هو رمز الذكورة يعني الله الذي يخرج من رحم اللّات دون أن تُقدّم لنا أدلّة قوية يمكن مُراجعتها لتعزيز الطرح الذي قدّمته
أشكر السائل الكريم على هذا السؤال!
فالحلقة التي أشار إليها أخونا الفاضل كانت ردًّا على سؤال كذلك،
والآن يمكن أن نتعمّق أكثر في الموضوع،
في الحقيقة هناك القليل جدًا من المعلومات وصلتنا عن حياة العرب قبل الإسلام،
والباحث لا يجد ما يُشبع رصيده المعرفي في هذا الموضوع
فأستاذنا الكبير الدكتور “جواد علي” صاحب موسوعة (المُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) قام بمجهود جبّار بتسليط الضوء على هذه الفترة وقدّم لنا الكثير من المعلومات عن الكعبات التي كانت موجودة في ما يُسمّى العصر الجاهلي
وكذلك الأديان والمُعتقدات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية وغيرها
إلا أنّها ليست كافية لكشف الستار عن هذه الفترة التي سبقت ظُهور الإسلام
وعلى الباحث أو الباحثين تقديم المزيد من البحث وتنقب لإظهار ولو جزء بسيط من هذه الحقيقة الغائبة
نعود للموضوع الذي طرحه السائل الكريم، تُخبرنا الروايات الإسلاميّة على أنّ الكعبة كانت مليئة بالأصنام عند فتح مكّة
ما يُناهز 650 صنمًا كانت في جوف الكعبة، لكن هذه الأخبار ظهرت في العصر العبّاسي
وهناك شُكوكًا حول صحّتها، عبادة الأصنام، والحجارة عند العرب قبل الإسلام، لها ما يؤكّدها ويؤيّدها في التاريخ الماديّ، وأقصد به علم الآثار الأركيولوجيا
وقد تحدّثنا عن اكتشاف فريق الأركيولوجيا (معهد وادي عربة) بقيادة الأستاذ Uzi Avner للحجارة التي تُمثّل رمز الخُصوبة
تؤكّد قِدم ارتباط البدو العرب بآلهة الخِصب والجمال وتقديسها مُنذ تاريخ بعيد
فالإلهة أشيرا أو عشيرة رمز الأنوثة، والدة الإلهة عشتار، إلهة الخصب والجمال وكذلك والدة الإله بعل كما سبق أن أشرت
أمّا رمز الذكورة فهو الإله إيل، الإله الأعلى، والخالق عند الكنعانيين الذي اشتُقت منه كلمة إله، أو إلوه التي أصبحت الله باللغة العربية، وإيلوهيم بالجمع باللغة العربيّة
ولهذا ُسمّي الحجر الأسود بيت إيل بالعبري، وبيت الله بالعربي، أو بيت بيتالوس باللغة اليونانيّة، وكذلك باللغة الآراميّة بين إيل بمعنى بيت الربّ أو بيت الإله
فالإلهة الأم عاشيرا عند العرب ما هي سوى تجلّي لإلهة اللّات، وهي تأنيث لله، ولهذا نجد في مُعجم القراءات المُختلفة عند سورة النّجم، اللّات قراءها البزّي عن ابن كثير والدوري عن الكسائي بالهاء (الله)
هذه الإلهة كانت تُسمّى عند الانباط في القديم قبل تسميتها باللات بالإلهة كعبو
ومعناها العذراء ذات الصدر الكبير، والدة الإله ذو الشرى كبير آلهة الأنباط
وقد أشار الأسقف القُبرصي “إبيفانيوس السلاميسي” في سنة 376 ميلادية في كتابة (Panarion) عن الهرطقات التي ظهرت في المسيحيّة
وقد تحدّثنا في حلقة عن الأبيونية من ضمن هذه الهرطقات يُخبرنا كذلك عن هرطقة أخرى نصرانيّة اسمها القوليريديانية κολλυριδιανοί
ظهرت في شبه الجزيرة العربية حيث وفّق أصحابها بين عبادة الإلهة كعبو العذراء ذات الصدر الكبير، ومريم العذراء والدة المسيح
ومن بعض الباحثين من قال: إنّ القُرآن يدين هذه الهرطقة النصرانيّة، ويُكفّرها في سورة المائدة الآية: 116 «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ…» (المائدة: 116) إلى أخره..
كما كفّرها الأسقف إبيفانيوس وبعض آباء الكنيسة بعده،
ومن الباحثين من سمّاهم المريميّيون الذين كانوا يعبدون مريم العذراء والدة الإله يسوع كما كانوا يعبدون الإلهة كعبو العذراء والدة الإله ذو الشرى
وخُلاصة القول قُلت سابقًا: إنّ كلمة كعبة، ككعب الرجل شيء مُدوّر، وهي كذلك من اللغة الآراميّة بمعنى كعب أو كعب الرجل أو صابونة الركبة
وبما أنّ شكل الكعبة في مكّة مربّع الأطراف كالحرم، يُمكن أن نستنتج تطوّر كلمة كعبة من كعبو الإلهة كعبو، بمعنى العذراء ذات الصدر الكبير والدة الآلهة
والحجارة أو الحجر الأسود بيت إيل بيتالوس، يرمز لخروج الإله الأعظم من رحمها
فيُقبّله الحاج فيما يُسمّى العصر الجاهلي لطلب الغفران والعفو كما هو في عُرف العرب إلى يومنا هذا
وقد حارب مثل هذه العقيدة الوثنية بالقول في النصّ القُرآني « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» (الإخلاص: 1 – 4) إلى أخر الآية..
كناية عن السيد المسيح وأمه واللّات كعبو العذراء العامرة الصدر، والله المولد منها
فرغم تكفير أصحاب هذه العقيدة، إلّا أنّ العرب استمروا في تقديس الحجر الأسود بيتالوس وتقبيله
فأخرج بعض الفُقهاء في العصر العبّاسي حديثًا عن ابن عبّاس لتبرير هذه العادة التي تُناقض العقيدة المحمديّة بقوله
“الركن يمين الله في الأرض يُصافح به خلقه، والذي نفسي بيده ما من امرئ مُسلم يسأل الله عنده شيئًا إلّا أعطاه إياه”
فقد فطن بعض الفقهاء لهذه الإشكاليّة، أعني إشكالية التجسيد المادي لله، ممّا جعل بعهم يُنسب الحديث لابن عبّاس وينفيه عن الرسول كشيخ الإسلام “ابن تيمية” ليخفف من وطأة التّجسيد المادي لله في الحجر الأسود
فقيّده بقوله في الأرض، يعني يمين الله في الأرض،
فجعل حُكم الله مُقيّد، يُخالف حكم اللفظ المُطلق، بمعنى أن الحجر الأسود يمين الله ليس صفة من صفات الله تعالى
نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في حلقة مُقبلة!
Download text file
You may also like
