التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 54 | بصمة الأدب الجاهلي في القرآن

أهلًا بكم!

في الحلقة الماضية بدأنا الحديث عن الكعبة وعلاقاتها بالإلهة الأمّ، إلهة الخصب والجمال الإلهة كعبو، العذراء ذات الصدر الكبير

كما تتذكّرون عبارة «وَكَواعِبَ أَتْرَاباً» (النبأ: 33) هذه كانت لإلهة تعبد في البتراء والإليوسة وهي والدة الإله ذو الشرى كبير آلهة الأنباط

وقد أشار إليها كما قُلنا الأسقف “إبيفانيوس السلاميسي”  في كتابه ( Panarion ) عند حديثه عن هرطقة القوليريديانية κολλυριδιανοί التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية

ووصف هذه الإلهة كعبو بالصدر الكبير ليس بالمفهوم الجنسي كما يمكن أن يتبادر إلى الذّهن

وإنّما بمفهوم الأمومة والعطاء دون مُقابل، فالأم تُقدّم ثديها لرضيعها بحنان وعطف دون الاكتراث بالألآم الذي قد تسببه خروج أسنان الرضيع أو سهرها ليلًا من أجل رضاعته

وهذا المعنى يسوقه القُرآن في أبهى حُلّة أدبية بليغة في صورة البلد حيث قال: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» (البلد: 10)

والنجدين معناها الثديين، وليس الخير والشرّ كما يُعتقد، لأنّ الهداية تكون للخير فقط وليس للشر

وبالتالي فالنجدين يُقصد بهما الثديين، لأنّ كلمة نجد تعني مُرتفع، وسوف نُقدّم لكم دراسة أعمق للباحثة الأمريكية السيدة “روبين كوهين” وأصل كلمة شداي في التوراة والتي أبدلت بكلمة يهوه كما يتضّح سفر الخروج الإصحاح السادس العدد 3 «وَأَنَا ظَهَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِأَنِّي الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ.» (خروج 6: 3)

وعلاقتها بالإلهة الأم ذات الثديين البارزين

في سفر التكوين الإصحاح 49: 25 «مِنْ إِلهِ أَبِيكَ الَّذِي يُعِينُكَ، وَمِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي يُبَارِكُكَ، تَأْتِي بَرَكَاتُ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَبَرَكَاتُ الْغَمْرِ الرَّابِضِ تَحْتُ. بَرَكَاتُ الثَّدْيَيْنِ وَالرَّحِمِ.» (تكوين 49: 25)

فكلمة شادو الأكادية تعني الثديين، وتطوّرت هذه الكلمة من معنى أخر هو مُرتفع أو تلّ أو جبل

وهذا يوافق تمامًا النصّ القُرآني في سورة البلد «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» (البلد: 10)

وبما أنّ الحديث عن العينين واللسان والشفتين، وكلّ هذه الأعضاء تُمكّن الإنسان في بدايته الأولى من الاهتداء إلى حلمة ثدي أمّه كباقي صغار الثدييات

فالآيات العِشر لسورة البلد جاءت كما قُلنا بحُلّة أدبية رائعة ماعدا الآيات الخامسة والسادسة والسابعة فيها شيء من النّشاز

حيث بدأت السورة بالقسم بزيادة الألف، «لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ» (البلد: 1) ويُحّدد هذا البلد بالمكان الذي يوجد به المُخاطب «وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ» (البلد: 2)

ثم يُتابع القسم بالوالد وما ولد «وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» (البلد: 3) إذًا، هنا إشارة لولادة الإنسان، والمقصود بها الوالدين وخاصة الأم

فيصف خلق الإنسان المولود في كبد بمعنى في مشقّة كما جاء في سورة الأحقاف الآية 15 «…حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا…» (الاحقاف: 15)

وبهذه الولادة العسيرة يُذكّره النصّ القُرآني بما أعطاه الله من نعمة كخلق العينيين، واللسان والشفتين، فهديانه بها لثدي أمّه

فالمعنى مُتسلسل وسلس ومفهوم وواضح في قالب شعري جميل

تأتي الآيات الثلاث في وسطها لتُفسد جمالية النصّ فيتحوّل الحديث إلى تهديد ومُشادّة بالقول «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ» (البلد: 5 – 7)

لاحظوا تغير القافية بالألف، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ تكرار نفس التعبير بتغيير طفيف مما يُظهر أن صاحب المقطع من أول السورة إلى الآية الرابعة

ثمّ من الآية الثانية إلى العاشرة هو لنفس الكاتب، والآية الخامسة حتى السابعة لكاتب آخر يحمل لهجة التهديد

رغم أنّ السورة من المفروض تنتمي للفترة المكيّة فترة المُهادنة، أو تكون لنفس الكاتب لكنّها تنتمي لفترة أخرى الفترة المدنية، فترة الحُكم والسيطرة

وهذا التغيير المُفاجئ في أسلوب الخطاب لاحظه أستاذنا الكبير “مُنذر يونس” أستاذ اللسانيات في جامعة كورنيل الأمريكية، وتحدّث عنه في عّدة مُحاضرات ولقاءات أكاديميّة سوف نُقدّم لكم حلقة خاصة في هذا الموضوع

سورة البلد النصّ الأول سليم وسلس به بلاغة ملحوظة

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ  (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

إذا الخطاب هنا للعقليّة التي تُقدّس الخصبة النماء، فتُبدل عطاء الإلهة كالإلهة كعبو بالإله الأوحد الله الإله الأكبر من كلّ الآلهة

فكلمة كعبو أُسقط حرف الواو من أخر الكلمة كاسم مثلًا “عمرو” فأصبحت فيما بعد “عمر أو عمر” وأضيفت التاء للدلالة على التأنيث كعبة

زيادة في التأكيد لاحظوا كلمة شُركاء في السورة، سورة الانعام الآية 94  «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ» (الأنعام: 94)

والضعفاء في إبراهيم 21 « وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ»(إبراهيم: 21)

والشفعاء في الروم  13 «وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ» (الروم: 13) إلى آخره حرف الواو

وقد تحدّث كما قُلنا الأسقف “إبيفانيوس” عن هذه الإلهة التي تحوّلت عبادتها عن العرب لهرطقة اسمها القوليريديانية κολλυριδιανοί

وعن توقيت مواسم حجّ العرب لتقديسها، وذلك في شهر تشرين الثاني نوفمبر كما أشار الدكتور “جواد علي” في (مُفصّله في تاريخ العرب قبل الإسلام) وهي إشارة إلى رحلة الشتاء من أجل الحجّ والتسوّق

وأشار المؤرخ  “بروكوبيوس” لرحلة الصيف من أجل الحجّ في تمّوز وآب أي جولاي وأغسطس

 وهذا يتطابق مع ما جاء في سورة قُريش بالنسبة لرحلتيّ الشتاء والصيف

القرآن قدّم لنا كذلك أشهر الحُرم، وهي أربعة ذو القعدة، ذو الحجة ومُحرّم ثم رجب كما قيل عن سورة التوبة الآية 36

فمن المُذهل أنّ الشهور الثلاث الأولى ذو القعدة تشرين الثاني، ذو الحجّة كانون الأول، محرّم كانون الثاني وهذه توفق تمامًا فترة الشتاء، بينما رجب تمّوز يوافق بداية فترة الصيف

تمامًا كما أخبرنا الأسقف “إبيفانيوس”  والمؤرخ “بروكوبيوس”

قد يقول قائل: هذه الشهور ليست ثابتة، فهي تتحوّل باستمرار بين الفصول

فرجب قد يأتي في الصيف أو الخريف أو الشتاء أو الربيع، وهذا صحيح

 لكننا نتحدّث عن الفترة التي سبقت الإسلام

وبعد إزالة شهر النسئ الشهر الذي كان يُضاف بعد 3 سنين لتقويم وتعديل حساب التقويم القمري

الذي يختلف عن حساب تقويم الشمسي بأكثر من 10 أيام في السنة

كما هو الحال في التقويم العبري، الذي يتعمد هو الاخر على التقويم القمري مع زيادة شهر النسئ

ففي الحلقة القادمة نقدّم لكم معني سورة قريش بحسب علم الفيلولوجيا

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 054

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً