التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 58 | التاريخ المادي يفند الرواية الإسلامية

أهلًا بكم أحبّائي الكرام!

تكلّمنا في الحلقات الماضية عن قُريش ومكّة، وقلنا: لا توجد أدلة ماديّة أثريّة على وجودها قبل القرن الثامن الميلادي.

وكثير من أصدقائي الباحثين المتنوّرين، لم يقبلوا هذا الطرح واعتبروه ضربًا من الخيال

لتُعارضه تمامًا مع الرواية الإسلامية، بحُجّة أنّ هذه الفرضيّة غير مُتكاملة وضعيفة، لا تصمُد أمام الرواية الإسلامية الشائعة،

وبالمناسبة أذكر سلسلة ردود صديقي الأستاذ “أحمد سعد زايد” على نظرية “دان جبسون” وكل من أنكر تاريخية مكّة فهو جبسوني واعتُبرت حينها واحدًا منهم

فالأمانة الأستاذ دان جبسون حينما ارتكز في نظريته على راوية الإسلامية لإثبات أنّ مكّة في الحقيقة هي البتراء

وهذه هي نقطة الضُّعف الذي مسكه عليه خصومه كالأستاذ أحمد سعد زايد، حيث هو الآخر ارتكز على الرواية الإسلاميّة ليُضعف فرضية دان جبسون

فعلى سبيل المثال وجود الصراع المتطاحن بين الفرق السياسية والمذاهب المختلفة في العصر الأموي

 كفيل بكشف المستور، فكيف لهؤلاء أن يتفقوا على رواية واحدة بوجود مكّة كمهد للديانة الإسلاميّة رغم اختلافها؟

فهذا السؤال مهم جدًا، وأقوى حجّة تفنيد أطروحة الدان جبسون،

وهذا السؤال هو كذلك مطروح على كل من يُشكّك في تاريخية مكّة، وبدورنا نحتاج إلى الإجابة عليه.

أولًا نُذكركم بما سبق قوله في الحلقات الماضية، فالوثائق التاريخية التي وصلتنا من عصر الأمويين والصراع بينهم وبين “عبد الله بن الزبير” لا تُسعف الرواية الإسلاميّة

لأنّه لا يوجد بحسب التاريخ المادي شخصيّة اسمها “عبد الله بن الزبير ابن العوام” ووالدته السيدة “أسماء بنت أبي بكر”

فهذه الشخصية ظهرت تفاصيلها في العصر العباسي، بينما التاريخ المادي يُقدّم لنا معلومات موثّقة تُخالف ما قدّمته الرواية الإسلاميّة

فاسمه الحقيقي بحسب علم العملات أو النُّمِّيَّات أو علم المسكوكات اسمه “الزُّمبيل” وهو من بلاد فارس و”عبد الله” لقب شرفي يعطى لحاكم منطقة تابعة للحُكم العربي بعد انتصارهم على البيزنطيين والساسانيين

كعبد الله “معاوية” الذي كان حاكمًا لبلاد الشام وعاصمته دمشق، أمّا عبد الله هذا الزمبيل هذا فكانت عاصمته كرامان في إيران حاليًا

الرواية الإسلاميّة تقول عن عبد الله بن الزبير كان مُعتصمًا في مكّة 63 هجرية خوفًا من بطش الأمويين بعدما تحرّك جيشهم نحوه بقيادة “مُسلم بن عقبة المُريّ”

بينما كشفت الحفريات عن وجود عُملة ساسانية تحمل اسم “عبد الله الزمبيل” تعود لنفس السنة 63 للحُكم العربي وجدت في مدينة كرامان

فهل نُصدّق الرواية الشفاهية التي أتت بعد أكثر من قرن أم العُملة؟

 فهذا السؤال نطرحه على من يؤيّد الرواية الإسلامية

تقول هذه الرواية: بأنّ “الحجّاج بن يوسف الثقفي” قصف مكّة بالمنجنيق فأحرق الكعبة للقضاء على عبد الله بن الزبير هذا

فلو صدّقنا هذه الرواية، أليس هذا يعني أن مكّة لم تكُن بالقداسة التي يُحكى عنها؟

فهل يجرُأ الآن أي حاكم مُسلم قصف مكّة للقضاء على مُعارضيه؟

يمكن الردّ بالقول: قصف الكعبة بالخطأ، والقصد هو “عبد الله بن الزبير”

في المُقابل، ألم تُدنّس خيول القرامطة الكعبة سنة 317 هجرية؟ وعاثوا فيها فسادًا أيام التشريق

رغم حُرمة هذه الأيام التي توازي حُرمة المكان كما تُفيد سورة البقرة الآية 197 «…فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ…» (البقرة: 197)

فحتّى الجدال ممنوع أيام الحجّ، فما بالكم بقطع رؤوس الحجيج ضيوف الرّحمن!

قد يرُدّ أحدكم أيضًا ويقول: هؤلاء فرقة ضالّة تُبيح المُقدّسات ومن هنا يُمكن القول: بأنّ فورق اعتبرت ضالة هُمِّشَ تاريخها وحكم عليها بالهرطقة والزندقة والخروج عن الملّة بسبب غزوهم لقرية لا يعتبرونها مقدسة

وما نقلهم للحجر الأسود إلى بلادهم إلّا دليلًا على قداسة الحجر الأسود بيتال عندهم، وليس المكان

فكما فعل عبد الله الزمبيل أو الزبير إن أردتم، بنقل الحجر الأسود من كعبة ما في أرض الأنباط على الأرجح إلى مكّة الحالية

فما وصلنا من موروث إسلاميّ فهو فكر خاص بالحُكّام، الذي يمسكون زمام الأمور

وشيوخهم الذين يدعون لهم بالتّمكُّن، هكذا كانت الأمور تُساوى إلى عصرنا الحاضر

سوف نُعيد الحديث عن فرقة القرامطة، في حلقات قادمة، لوضعها تحت المجهر والخروج بنتائج تفيد موضوع تاريخية مكّة

وكذلك نتطرّق للحديث عن فورق أخرى مُستضعفة تُقدّم لنا معلومات أكثر عن الموضوع

فنبدأ أوّلًا بالطائفة الشيعيّة، إذا كانت هذه الطائفة تشيّعت وتحزّبت لعليّ بن أبي طالب “أبو تراب” في التاريخ المادي كما يُمكن الفهم من سورة الصافات الآية 83 «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ» (الصافات: 83)

هناك من يرى التّشيع مُنذ وجود الرسول نفسه على سُدّة الحُكم، وأنّه أوصى بخلافته عند حجّة الوداع يوم غدير خُمّ

حيث قال في خُطبته الشهيرة: (من كنت مولاه، فهذا علي مولاه)، كما تُفيد المصادر الشيعية،

فهذا الحديث من الروايات الشفاهية عندهم، أي عند الشيعة، قد لا يعترف بها بعض أهل السنّة

والسؤال المطروح على أهل الشيعة، إذا صدّقنا هذا الحديث لماذا لم يوثّق مثل هذا الحدث العظيم على وثيقة يشهد عليها الحاضرين في غدير خُمّ؟

والقرآن في سورة البقرة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»

يأمر المُتداينين بدين أن يكتبوه هذا الدين أمام شاهدين عدلين، وهذا الدين قد يكون عشر دراهم على سبيل المثال، فما بالكم بولاية العهد والخلافة!

فالمفروض أن يصدُر مرسومًا من النبي بهذا الأمر،

 بالمناسبة تُقدّم ولاية العهد في الإمبراطوريّة البيزنطية كانت تُصكّ عُملة ذهبيّة بهذه المناسبة حتى يعلم الشعب كلّه هذا الخبر

أم الموضوع فعلًا كما يقول أهل السنّة: «…وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ…» (الشورى: 38) كما جاء في سورة الشورى

نكتفي بهذا القدر، وسوف أقدّم مُعطيات أخرى في الحلقات القادمة، فكونوا معنا وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 058

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً