التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 59 | سبب تقسيم المسلمين لفريقين سنة وشيعة

أهلًا بجمهورنا الكريم!

في إطار الحديث عن قُريش ومكّة بين الموروث الإسلامي من جهة، والتاريخ المادي المُبكّر الإسلامي من جهة أخرى، كُنّا بدأنا الحديث عن طائفة الشيعة

وطرحنا سؤال مهم، لماذا لم يوثّق الرسول مرسومًا لتوصية الخلافة والإمامة “لعلي بن أبي طالب” بعده؟

وللردّ على قول وصية غدير خُمّ، وغيره من الأحاديث الشيعية، يقول بعض أهل السنةّ بموجود مبدأ الشورى في القُرآن وذلك في الآية 38 في سورة الشورى «…وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ…» (الشورى: 38)

فكيف للنبيّ أن يوصي بالخلافة لأحد من أبناء عمومته؟

بين الأخذ بالوصية أو مبدأ الشورى، يُمكن القول: بأنّ موت الرسول دون ترك وصية هو السبب في اختيار مبدأ الشورى أو الإيمان بالوصيّة

لكن الواقع ذهب في اتّجاه مبدأ الشورى وهنا تلتقي الرواية الشفاهية بالوثيقة ونخُصّ بالذكر (الحوليّة المارونيّة) حيت تقول: إنّ عبد الله معاوية توّج ملكًا على العرب بحُضور أمرائهم بعد مقتل “أبو تُراب” الذي هو الأرجح “علي بن أبي طالب”

لكن هناك إشكالية تجعل من الوصية لها أرضية صلبة يمكن الوقوع عليها حينما نطرح السؤال التالي:

إذا كان مبدأ الشورى هو الأساس في الخلافة، فلماذا كسر مُعاوية هذا المبدأ القُرآني بوصية الخلافة لابنه اليزيد؟

أليس هذا إبطالًا لكلام الله في القُرآن، وظلمًا لشخصيات أخرى تستحقّ أكثر من هذا … الخلافة؟

إذًا التأرجُح بين الأخذ بالوصية أو مبدأ الشورى جعل في النواة الأولى للجماعة المُسلمين تنقِسم إلى فريقين مُتصارعين على الحُكم

واحدة تُعطي لآل البيت أو لآل النبيّ الأحقيّة في الخلافة دون غيرهم

وأخرى تنظُر للشمولية وعدم تفضيل على أخرى، فتُعطى الأحقية لعبد حبشي على الخلافة إذا أجمعت عليه الأمّة أو أجمعت عليه الأمة عفوًا!

إذًا، من هنا بدأت المعركة السياسيّة بين الفريقين، يستخدم كلّ فريق أحاديث على الأغلب مُفبركة لصالحه

وهذا الصراع لابد أن ينتج لنا فورق مُنتصرة تمسك بزمام الأمور وأخرى مُستضعفة تحاول الاستعداد لفُرصة ذهبية لتنقضّ على الحُكم

للأسف على امتداد حقبة الدولة الأمويّة والشيعة يتعرّضون للاضطهاد والإبادة حتى لا تكون لهم فُرصة للوصول إلى الحُكم

فلولا مبدأ السريّة والتّخفي لكانت الفرقة الشيعيّة في خبر كان، فاستنبط أهل الشيعة مبدأ التقيّة من القُرآن في سورة آل عمران الآية 28 «لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (آل عمران: 28)

وهو مبدأ قديم كانت الجماعات الدينيّة والسياسيّة المُستضعفة تستخدمه في مراحل الاضطهاد، فكان هذا المبدأ طوق نجاة لهذه الطائفة.

وبينما أنّ الأمر كان مسألة موت أو حياة، فكان من الضروري تفعيل التقيّة في من إبطال الحقيقة وإظهار عكسها

فأصبحت بذلك عقيدة أساسية كالقيام بفريضة الصلاة والصيام والحجّ حيث جاء في كتاب (بحار الأنوار) “للمجلسي” عن النبي قال: “تارك التقية كتارك الصلاة”

مثل هذا الحديث عن النبي من الطبيعي ألّا يقبله بعض أهل السنة

كحديث صادر عن النبي ويتّهمونه أو يتّهمون الشيعة بالنفاق والكذب

حجّة الشيعة أنّ الأئمة المعصومين سلالة الرسول، هم من أتوا بهذه الأحاديث التي هي في الأصل دعوة لنُصرتهم

في المُقابل تكثُر الأحاديث عند أهل السنة في مناقب الصحابة والتابعين وتقدسهم كتقديس الشيعة لذريّة الرسول

وللأسف فصناعة الشرعيّة بين الطرفين امتدت لتفسر القُرآن النصّ المؤسّس بعدما أصبح هذا النصّ واقعًا لا مناص منه بحدّ السيف واستخدام السلطة

فقبول الشيعة بالمصحف المنسوب إلى “عثمان بن عفان” كان أمرًا واقعًا، في حين لم يستطيعوا لضعفهم الوصول لمصحف “علي ابن أبي طالب”

وكما رأينا في موضوع سورة الكوثر على سبيل المثال، فالشيعة يقولون: إنّ الكوثر هي فاطمة الزهراء بنت الرسول

وأهل السنة يُفسّرون الكوثر بنهر في الجنّة

في ظلّ وجود أحاديث كثيرة تتراكم عبر السنين من الطبيعي تأتي فكرة تأليف كتب لتجميع الأحاديث الصحيحة بحسب الطائفة

وكلّ فرقة تجتهد بأدوات علميّة بالنسبة لتلك العُصور كموضوع عِلم الرجال أو الجرح والتعديل وكلّها أدوات بدائيّة بالنسبة لعصرنا الحاضر

كاختراع العجلة أدّى لاختراع الصاروخ فيما بعد

هذا معناه أنّه ليس كلّ ما وصلنا عن الإسلام المُبكّر من المسلمين حقيقة مُطلقة

بل اجتهاد كلّ فرقة لدعم مصالحها في وجود كتب (كصحيح البخاري وصحيح مسلم)

 ما هي سوى اعتراف ضمني بوجود كذب على الرسول تفتضيه الحاجة والضرورة، وكلّ فريق يدّعي الصّدق والأمانة في نقل الأحاديث

ما وقع في صناعة الأحاديث يكشف لنا صناعات أخرى مهمّة، كصناعة التاريخ وتأليفه

يصب بالدرجة الأولى في مصلحة كلّ فرقة مُتصارعة على الحُكم والبقاء لكسب الشرعية والتأييد

وهكذا بدأت معالم التاريخ الإسلامي تظهر وتتقوّى في فترة هذا الصراع،

 ولهذا السبب يمكن القول كعادتي: “إنّ الموروث الإسلامي عبارة عن منجم من الذهب، تُخرج منه ألاف الأطنان من التّراب للحُصول على حفنة صغيرة من الذهب”

والسؤال المطروح: كيف يمكن استخراج الحقيقة النسبية (انتبهوا على كلمة نسبية ليست مُطلقة) من هذا التاريخ الذي يشوبه التلفيق والتأليف

هناك طرق وأدوات علمية جديدة يستخدمها المُتخصّصين في التنقيب عن هذه الحقيقة الغائبة، وهذه الأدوات تتضمّن البحث على أرض الحدث

علم الآثار الأركيولوجيا يفتحون ورشات تنقيب عن الآثار، من آثار مباني قديمة ترجع لتلك الفترة

تكشف عن نمط حياة تلك الشعوب الغابرة، عُملات مثلًا وفخريّات ونُقوش تؤرّخ لتلك الأحداث

وبما أنّ الموضوع كان حول تاريخيّة مكّة، كان على هيئة الآثار والتنقيب في مكّة بالتوثيق لتأكيد تاريخيتها وتقدم تقريرًا عما وجدته من آثار في مكّة وخاصة حوالي مسجد الحرام

فالسكوت عن هذا الأمر له معنى واحد وهو لا وجود لأثر يرجع لعهد الرسول والصحابة وحتى التابعين

لتكملة الموضوع، نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 059

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً