أهلًا بكم احبائي الكرام!
في الحلقة الماضية وفي إطار الردّ على إجماع الفُرق الإسلاميّة على تاريخ الأمّة، في هذه الحلقة نُعيد طرح السؤال الماضي، ونرُدّ عليه
كيف يُمكن استخراج الحقيقة النسبيّة؟
ففي أي مشروع بحث في التاريخ تبدأ عملية التنقيب على أرض الحدث من طرف مُتخصّصين في علم الآثار
أو حتى خارج أرضية الأحداث التاريخية التي نبحث عن توثيق لها
عندما نتوصّل بمُعطيات عن هذا التاريخ سواء أن كانت مادية أو راوية شفاهية، نبدأ بما هو أقوى وهي وجود وثيقة ماديّة
ترجع لتلك الفترة المُبكّرة من الإسلام، سواءً كانت عند المسلمين أو غيرهم
الغريب قما يخُصّ التاريخ المُبكّر للإسلام، لا توجد وثائق كثيرة، رغم أنّنا في القرن السابع الميلادي،
ومن المفترض أن توجد وثائق عديدة إذا كان التوثيق يشمل حتّى قرض بسيط بين شخصين كما تُفيد الآية 282 من سورة البقرة، فما بالكم بالأحداث الكبرى!
عندما نحصل على وثائق تعود لتلك الفترة نُقارن بينها فنبحث عن المُشترك فيها
للأسف، لا توجد مثل هذه الوثائق الحقيقية عند المُسلمين.
نجد فقط وثائق ومزوّرة تكشف عين المُتخصّص بسهولة مثل رسائل الرسول التي تحمل خاتم بطريقة (الإستيف) يعود لعصر السلاطين العثمانيين قيل أنّها ترجع للرسول نفسه
وقد قدّمت حلقة عن هذا الموضوع في برنامج (صندوق الإسلام) مع الأستاذ “حامد عبد الصمد” والمُدهش أنّنا وجدنا وثائق عند غير المُسلمين
تُعطينا ومضات بسيطة عن تلك الحقبة تنسف تمامًا ما جاء في الرواية الإسلاميّة في العصر العبّاسي
وهذه الوثائق تعود للقرن السابع الميلادي، كالحوليّة المارونيّة كما قلنا، وتعليم يعقوب Doctrina Jacobi وتاريخ هرقل بسيدوس سيبيوس،
تتحدّث عن غزو للعرب منطقة شاسعة كانت تحت الحُكم البيزنطي والساساني
فالسؤال المطروح كباحثين، هل نعتمد هذه المعلومات بحجّة أقدميّة هذه الوثائق كشاهد عيان للأحداث،
أم نأخذ بالرواية الشفاهية التي صدرت عن المسلمين أنفسهم، ونضرب عرض الحائط الوثائق الأجنبية في ظلّ صراع المصالح؟
هناك درجات ترتيبية لتقييم الأحداث التاريخية،
الدرجة الأول: أ تكون للحدث التاريخي الموثّق في وقته يعترف به المُنتصر والمهزوم
ثمّ تأتي بعده الدرجة الثانية: ب للحدث التاريخي الموثّق في حينه من جانب واحد فقط، فما اعترف العدوّ من انتصار لصالح خِصمه هو أفضل من تشويهها له
الدرجة الثالثة: ج للحدث التاريخي الموثّق بعد فترة ليست ببعيدة عن الحدث، تُراعى فيه صاحب الوثيقة هل هو من فئة المُنتصر أم المهزوم
الدرجة الرابعة: د وجود رواية شفاهيّة غير موثّقة سواء كانت عند المُنتصر أو المهزوم
وهكذا يكون ترتيب درجات صحّة تاريخيّة الأحداث،
للأسف عندما يتحدّث الباحث من ناحية إيمانيّة عاطفيّة يقلِب هذه الترتيبات رأسًا على عقب
فتُصبح الرواية الشفاهية المُحمّلة باحتمالات زيادة ونُقصان لصالح فئته، هي التي تأخذ درجة أ
والوثيقة التي كُتبت في ذلك العصر من طرف الأعداء هي بالدرجة الأخيرة لا يؤخذ أو يُعترف بها
لهذا الحياديّة مطلوبة في كشف الحقيقة النسبيّة للأحداث التاريخيّة
نعود لموضوعنا تاريخيّة مكّة، فلا توجد كما قُلنا أي وثيقة تصنّف في درجة أ أو ب أو حتّى ج
غياب اسم مكّة من الخرائط والعقود التي تعود لتلك الفترة، لا عند العرب المُنتصرين ولا عند غيرهم
فما نجده فقط سوى رواية شفاهيّة وثّقت في مُنتصف القرن الثاني بعد الأحداث وذلك في العصر العبّاسي كما قُلنا
وبالتالي اعتمادًا على المنهج العلميّ الصّارم فهذه الأحداث المرويّة الشفاهيّة تأتي في الدرجة الرابعة حرف د
من حيث الصحّة، عندنا وثائق كالحوليّة المارونيّة و Doctrina Jacobi تُعطينا خلافًا لما تُقدّمه الرواية الشفاهية
إذًا نحن أمام خبر من درجة ب كوثيقة، أمام خبر من درجة د كرواية شفاهيّة
فبحسب المنهج العلمي الصارم، نُرجّح الخبر من درجة ب على نظيره من درجة د
ولا يُراعى فيها إيمان الباحث أو الجمهور الذي توجّه له نتائج البحث
نرجع للحديث عن الفرقة المُستضعفة التي تستخدم مبدأ التقيّة والكتمان من أجل البقاء ونطرح السؤال التالي:
فمتى تفصح هذه الفرقة على نواياها الحقيقيّة؟
الجواب بالطبع: عندما تزول المخاطر وتمسِك هي بزمام الأمور
حتّى أتيح لها الفرقة المُستضعفة أن تمسك بزمام الأمور في التاريخ الإسلاميّ، وتقول كلمتها للكشف عن المستور
أوّل تمكُّن لطائفة شيعة مُستضعفة من الحُكم كان في بداية القرن العاشر الميلادي أي بعد مرور 3 قرون عن بداية الإسلام
وهي الدولة التي نشأت في شمال أفريقيا أي الدولة الفاطمة الإسماعليّة،
مما يُفيد أنّ الدولة العباسيّة التي ترعرع تحت ظلّها الفكر الإسلامي السائد بدأت هذه الدولة تضعُف وتتقهقر
وفي جوّ هذا الضُّعف وقعت حادثة هزّت الأمة الإسلاميّة في بدايات القرن الرابع الهجري
وهي هجوم فرقة القرامطة -دائمًا نذكّر- على مكّة وقتلهم للعديد من الحجيج واستباحة حُرمة الكعبة في أوقات الحجّ الأكثر حرُمة في أيام السنة
فلا نجد سوى القليل عنهم وعن مُعتقداتهم، ولكن هذه الحادثة كشفت عن مكانة مكّة الحقيقيّة على الأقلّ عند هذه الفئة من الطائفة الشيعيّة الإسماعليّة
فلو تركنا ضرب “الحجّاج بن يوسف الثقفي” للكعبة بالمنجنيق للقضاء على خصمه اللدود “عبد الله بن الزبير” كما تقول الرواية الإسلامية لنا أن نتساءل
كيف يؤمن هؤلاء بالإسلام وقداسة مكّة، والشهور الحُرم، ويقترفون مثل هذه الجريمة الشنعاء؟
تقول المصادر الإسلاميّة أنّهم أخذوا الحجر الأسود معهم لوطنهم أكثر من عشرين سنة
مما يُفيد أنّ القداسة بالنسبة لهم تكمُن في هذا الحجر، وليس في مكّة نفسها، وإلا لما أخذوا معهم حجرًا لا ينفع ولا يضُرّ
نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء!
Download text file
You may also like
