التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 64 | من هو أبو لهب؟

أهلًا بجمهوري الكريم!

اليوم نتحدّث عن موضوع أخر، على غرار تفسير سورة الكوثر، بحسب علم الفيلولوجيا علم اللّغة المُقارن.

حيث طلب مني الصديق الأستاذ “محمّد المُباركي” وتحيّة له، الحديث عن سورة المسد

تقول الرواية الإسلاميّة: إنّ هذه السورة أي سورة المسد، نزلت في عمّ الرسول وهو “أبو عُتبة، عبد العُزّى بن عبد المطلب” المعروف “بأبي لهب”

وهو كذلك زوج أم “جميل بنت حرب بن أمية” وأخت أبي سفيان”

القصة تقول: عندما بدأ محمد ابن أخّ أبي لهب هذا، يجهَر برسالته في بدايته الأولى للنبوّة، وذات يوم صعد فوق صخرة الصفا ودعا قريشًا لاتباع رسالته

فقاطعه عمّه “أبو لهب” قائلًا: لعلّ الله يهلكُك ألهذا السبب جمعتنا!؟ وفي رواية أخرى قال: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا!؟

فنزلت السورة من الله عزّ وجلّ تقول: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ. سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ» (المسد: 1- 5)

فالتبُّ عند الفقهاء هو الخُسران والهلاك وبالتالي: فالله يدعو على عمّ رسوله بتبّ اليد وعدم نفعه بالمال وما كسب

ثّم أشرك زوجته أم “جميل” في القدح والردح لعبد العُزّى على قوله فيما معناه، تبًا لك يا مُحمّد ألهذا السبب جمعتنا؟!

ولتبرير وجود زوجة في الرواية قال الرواة وعلى رأسهم “ابن إسحاق” في (السيرة النبوية) كانت أم جميل تضع الشوك في طريق الرسول لتؤذيه،

وهذه الرواية لا تقف على أرضيّة صلبه لعدّة أسباب منها:

أنّها ظهرت في العصر العبّاسي من حيث التوثيق، يعني بعد مُدّة طويلة،

ثانيًا، نفس الرواية تقول: بأنّ عبد العُزّى هذا كان عمّ الرسول وصهره كذلك، لأنّ كل من ابنيه عُتبة وعُتيبة تزوجا ببنتي الرسول أم كلثوم ورقية

يعني أنّ الرجل هذا أبو لهب من أقرب الأقربين للرسول، فكيف تكون هذه العداوة بينه وبين ابن أخيه؟

ثالثًا: هذا العمّ في مقام والده، وهو أكبر منه سنًا، فمن عادة العرب توقير المُسنّ فما بالكم بالعمّ الكبير في السنّ!

فحتى لو صفعه أمام القوم، فلا إشكال في ذلك، لأنّه في مقام أبيه، والأهمّ من هذا كلّه، هو الموقف الذي وضع محمّد عمّه فيه لو صحّت الرواية

بالنسبة للقوم فمحمّد مُجرّد مُدّعي النبوة، ووقفه فوق صخرة الصفا مُناديًا بأمر تافهٍ كهذا،

 وكأنّه يدعو الناس لخبر مهم يستحقّ ترك ما بأيدهم والسماع لما ينادي به

وضع عمّه هذا في موقف لا يُحسد عليه، فلو نطق شخص أخر لا ينتمي لعائلة الرسول بكلمة سوء قبل عمّه هذا عبد العزى بن عبد المطلب

 لأشعل نعرة العصبية والحمية ولتسبب في قتالٍ بين بني عبد المُطلب وأهل ذلك الرجل الذي نطق بكلمة سوق في حقّ محمد

وبالتالي لو صحّت هذه الرواية فعمّه هذا كان حكيمًا في تصرّفه، لأنّه تجنّب كارثة كانت من المؤّكد تندلع في ظلّ هذا الموقف السخيف

والغريب أنّ النتيجة يتحملها هذا العمّ، الذي حمى صهره وابن أخيه،

 في المُقابل يرسل الله خالق الكون الملاك جبريل بنصّ فيه الشتم والسبّ لهذا الرجل الحكيم بتصرّفه

ولو نظرنا للظرفية التي جاءت هذه الرواية، وأخُصّ بالذّكر عصر “أبي جعفر المنصور العباسي”، لأنّه كتب في هذا العصر هذا النصّ

يمكن القول بأنّ تشويه صورة العمّ، تخدم موقف هذا الخليفة من عمّه “عبد الله بن علي” الذي كان يكرره ويُنافس “ابن المنصور” على الحُكم

ولهذا السبب قام بالقبض على عمّه ووضعه في السجن باقي حاته

وبالتالي كُره الخليفة أو جعفر لعمّه مُبررًا، فحتّى الرسول شتم عمّه أبي لهب بحسب تفسير هذه السورة

إذًا تفسير الآية يخدم المصلحة السياسية للخليفة الذي ظهرت في عصره هذه الحكاية

نعود للصورة ونرى ماذا تحمل من فكر بموجب علم الفيلولوجيا

«تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ…» (المسد: 1) فكملة تبّت من التّباب هو الضلال والهلاك ما يقول الفقهاء

كما جاء في سورة غافر الآية 37 «…وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ» (غافر: 37)

وهذه الكلمة أي تبّت هي قلب أحرف، ميتاطيس لكلمة بتت، ولها نفس الرّسم بمعنى القطع والمنع، وذلك بتّ بالتشديد بمعنى القطع والمنع

وهذا القطع والمنع يظهر في الآية التي تليها «… مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ…» (المسد: 2)

فرغم ما كسبه من مال وغنى هذا الملقّب بأبي لهب، وهي كناية عن الذي سوف يخلُد في النّار جهنّم، لم ينفعه لمنعه وقطعه مُساعدة الفقراء والمساكين،

وهنا يضمّ النصّ البخيل الذي لا يُعطي شيئًا لكثرة لحُبّه للمال، حتّى يصل درجة العيش في فقر مضجع رغم توفّره على المال الكثير

فلعدم مساعدته الفقير والمُحتاج وإنفاقه في سبيل الله، يكون هذا المال سببًا في دخوله جهنّم يوم الحساب،

وعُرضة في الدنيا لمؤامرة أقرب النّاس إليه كزوجته التي تُعاني من بُخله

فتحمل هذه الزوجة حطبًا لحرق زوجها والتخلّص من بُخله الشديد،

 وعلى رقبتها حبل من مسد أي من المسدي أي من ليف وهو حبل من ليف النخيل، لتُربطه وتضعه على حطبٍ لأجل حرقه والتخلُّص منه

هذا المشهد المرعب لِمَ سوف يحصُده البخيل في الدنيا والأخرة، لشُحّه وبُخله قد نهى عنه القُرآن في عدة آيات،

 كسورة آل عمران الآية 180 «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (آل عمران: 180)

كذلك في سورة النساء الآية 37 «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا» (النساء: 37)

والتوبة 34 – 35 « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.  يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ» (التوبة: 34 – 35)

وكما يأمر النصّ القُرآني كذلك بالاعتدال كما جاء في سورة 29 «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ…» (الإسراء: 29)

وكذلك في سورة الفُرقان الآية 67 « وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا» (الفرقان: 67)

ومحمّد 36 إلى 38 «إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ. إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ. هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم» (محمد: 36 -38)

إذًا، سورة المسد تُقدّم لنا مشهدًا مُرعبًا في حقّ البخيل وتُحذّر من عواقب شُخّه وبُخله، ولا وجود لردح من الله لعمّ الرسول وزوجته

نكتفي بها القدر، وإلى اللّقاء في الحلقة المُقبلة، فكونوا معنا!


Download text file

Early History of Islam 064

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
19 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
14 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً