التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 69 | الإعجاز العلمي وترسُّبات في نص القرآن

أهلًا بكم!

في الحلقة الماضية تحدّثنا عن الإعجاز المزعوم في سورة الرحمن الآيتين 19 و 20

ورأينا أنّ عُلماء الإسلام القُدماء كانوا على حقّ في تفسيرهم هاتين الآيتين، والبحرين يعني بهما بحر السماء عذب فُرات وبحر الأرض ملح أجاج

والبرزخ هو الحاجز الذي يفصل بين مياه السماء ومياه الأرض بميزان وعدل، وهذا ما بيّنه العلامة “مار مارسيه” السرياني في القرن الخامس الميلادي

ولهذا لا وجود لنشازٍ في وجود كلمة ميزان في سياق خلق السماوات والأرض في السابعة والعاشرة من سورة الرحمن

لكن الآيتين 8 و 9 فيهما إشكاليّة، تُربك فعلًا سياق النصّ في خلق السماوات والأرض، ولهذا قدّم لنا الأستاذ Guillaume Dye من جامعة  libre de Bruxelles في بلجيكا فرضية وجود ترسُّبات في النصّ القُرآني،

بمعنى أنّ النصّ خضع لتطوّر في 3 مراحل مختلفة في هذا المقطع من سورة الرحمن،

فالنصّ الأوّل كان متوازنًا في سياقه، حيث كان على الشكل التالي: «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ. فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ»

ثم في مرحلة أخرى أدخلت الآيتين، 8 و9  «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)» (الرحمن: 7 – 12)

لأنّ صاحب النصّ الأوّل ليس هو من أدخل هذه التوصيات على النصّ، وأقحمها شخص أخر، من أجل تبرير وجود كلمة الميزان في الآية السابعة

ولم يعرف أي صاحب النصّ الثاني، لو استطعنا أن نُسمّيه كذلك بسر وجود الميزان بين السماوات والأرض، وهو الحاجز والبرزخ الذي يفصل المياه السماوية والمياه الأرضية

فظنّ أنّ الحديث عن الميزان المعروف الذي يستخدم في الكيل، فكتب مسودة بجانب آية الميزان وهي: «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» (الرحمن: 8 -9)

كتنبيه وتوصيات للأمانات في الكيل عن الأسواق، وهذا المعنى للميزان هو ما فهمه أهل التفسير والتأويل أنفسهم

حيث جاء في (تفسير الطبري) على سبيل المثال عن ابن عبّاس قال: “في سوق المدينة: يا معشر الموالي، إنكم قد بُليتم بأمرين، أهلك فيهما أُمّتان من الأمم: المكيال والميزان”

وهناك سيناريو أو فرضيّة أخرى يُمكن القول بها، فصاحب النصّ الثاني كتب مقطع مسودة بنفس لون الحبر الذي كتب به صاحب النصّ الأوّل، النصّ المؤسّس

وفي مرحلة ثالثة، مرحلة جمع القرآن أصبحت كلمات تلك المسودة، ضمن النصّ القانوني المعروف عندنا الآن بنص المُصحف العُثماني

وقد تنبّه النّساخ مخطوطات في القرن الأول لتدون القرآن لهذه المُعضلة،

فأصبحوا يكتبون ما ليس من القُرآن بحبر أحمر، كما نُلاحظ في مخطوطة القرآن القديمة كمصحف “باريسنو – بتروبوليتانس”  حيث يكتب الناسخ عبارة )خاتمة سورة كذا( أو )فاتحة سورة كذا(

قد يقول قائل: إنّ القُرآن محفوظًا في الصدور، وبالتالي: ليس هناك صاحب النصّ المؤسس وصاحب النص الثاني والثالث،

فهذه تهيؤات من الباحث الذي لا يعرف حقيقة حفظ القُرآن في الصدور

وهنا يُمكن أن تساءل بدورنا، إذا كان محفوظًا في الصدور، لماذا لم يحفظ الله الآيات التي ضاعت من سورة الأحزاب أكتر من 200 آية على سبيل المثال حين قال الصاحبي “أُبي بن كعب لزر بن حبيش”، أنّ سورة الأحزاب تُضاهي سورة البقرة وذكر آية الرجم التي أكلتها الداجن

لماذا لم يحفظ المُسلمون الأوائل القُرآن كاملًا؟

بحسب المراجع الإسلاميّة نفسها، تقول المصادر أيضًا: إنّ “عبد الله بن عمرو” قال: لا يقولنّ أحدكم، قد أخذ القرآن كله، وما يُدريه ما كلّه، قد ذهب منه قُرآن كثير، ولكني لقل قد أخذت منه ما ظهر منه”

إذًا، بما أنّه ضاع قُرآن كثير، فلت من عقول الحُفّاظ، فنظرية الأستاذ Guillaume Dye  مقبولة

نعود لفكرة الخلق، وفصل مياه السماوات عن مياه الأرض عند القُدماء،

حيث كانوا يعتقدون بوجود حاجز صلب بين مياه السماوات والأرض حتّى لا يطغى أحدهما عن الأخر

وهذا الحاجز الصلب ليس إلّا قُبّة السماء، فلو كُسرت بفعل أمر إلهيّ، فسوف تقضي على حياة من يعيشوا تحتها

 ولهذا جاء في سورة الإسراء الآية 92 على لسان أعداء محمّد «أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا…» (الإسراء: 92) أي تُسقط علينا قطعًا تُسبّب هلاكهم،

 قصّة خلق السموات حضارات ما بين النهرين القديمة، تفيد نفس المعنى تقريبًا بفصل مياه السماوات عن المياه الأرضية

حيث جاء في الميثولوجيا البابلية والسومارية القديمة قصّة الخلق، ومن أبرزها قصة إنوما إليشي وهي قصة بابلية اُكتشفت ألواحها في مكتبة آشوربانيبال من طرف الرّحالة البريطاني Austen Henry Layard   في نينوى سنة 1849 ميلاديّة

جاء في اللوح الأول أن الإلهة تيامات والإله أبزو كانا وحيدين قبل الخلق، فالإلهة تيامات هي إلهة المُحيطات وأبزو هو إله المياه العذبة

نتج عن تزاوجهما ولادة إله لخمو وشقيقته الإلهة لخامو كلّهما آلهة الأبراج السماويّة والنجوم والكواكب

ولدا هاذين الإلهين أنشار وهي الجنة، وكيشار وهي الأرض، وبدورهما ولدا أنو إله السماء

كذلك في الميثولوجيا السومارية نجد الإلهة نامو توافق الإلهة تيامات وهي أي نامو إلهة المياه الأزلية أصل وجود أنجبت الإله آن إله السماء والإلهة كي إلهة الأرض

إذًا فكرة خلق عند حضارات ما بين النهرين تُقدّم عُنصر الماء كأوّل مادّة لخلق الكون

وهذا بالضبط ما نجده في سورة الأنبياء الآية 30 «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» (الأنبياء: 30)

إذًا النصّ القُرآنيّ لم يأتِ بجديد في مسألة خلق السماوات والأرض،

 والحاجز الذي بين البحرين ما هو سوى قبّة السماء التي نراها فوق رؤوسنا، ولا دخل لما وصل إله عُلماء البحار من عُلوم في القُرآن

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء في الحلقة القادمة!


Download text file

Early History of Islam 069

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
19 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
14 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً