التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 82 | أخطاء النساخ في القرآن زمن الخليفة عثمان

سلام لكم ورحمة الله أعزّائي المُسلمين!

وأهلًا وسهلًا بباقي الجمهور الكريم!

تحدّثنا في الحلقة الماضية عن بعض الأخطاء النسخيّة التي ارتكبها النسّاخ الأوائل في بداية تدوين القُرآن، أي في عصر الخليفة “عثمان بن عفان”

وقُلنا: إنّ جميع مصاحف الأمصار أخذت عن مصحف الإمام، وهي أي مصحف الإمام النسخة الأولى التي أصبحت نصًا قانونيًا رسميًا للدولة في عهده

خطّها الصحابي المُتمرّس “زيد بن ثابت” برفقة مجموعة من مساعديه

وقُلت: مُتمرّس لأنه يجيد 3 لغات، العربيّة العبرية والسريانية، حتى لُقّبَّ بتُرجمان الرسول لبروزه في قراءة وكتابة هذه اللغات،

 وهو أفضل حالًا بكثير من عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما من الصحابة الذين كانوا يحفظون القُرآن عن ظهر قلب، كما تقول الرواية الإسلامية

فلو حصّت هذه الرواية، يمكن القول إنّ موضوع تدوين القُرآن في السطور كان أهم بكثير من حفظه في الصدور

لأنّ التوثيق في وثيقة أهمّ من الاعتماد على الذاكرة لأنّ الإنسان من طبعهِ ميّال للنسيان

ولهذا لا نستغرب عندما يأمر القُرآن المُسلمين بتوثيق الأمور الماديّة من ديون وعقود، وذلك في سورة البقرة الآية 282 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ۖ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة: 282)

فما بالكم بتدوين وتوثيق أقدس نصّ لدى المسلمين

فالأمر لا يعتمد على الحفظ، وإلّا لترك المسلمون الأوائل القرآن دون تدوين مُعتمدين على الحفظ والذاكرة

فاختيار زيد بن ثابت على باقي الصحابة هو دليل قاطع على أهميّة الرسم والتوثيق بالدرجة الأولى والحفظ والذاكرة في الدرجة الثانية

ولكن نستغرب قول بعض الدُّعاة بالدّعوة للاعتماد بالدرجة الأولى على الحفظ وإهمال المخطوط

ممّا أدى لتأخير المسلمين في مجال دراسة المخطوطات، فتكون الريادة بذلك من للمُستشرقين الغربيين في هذا المجال

هذا الإهمال المُبكّر جعل عُلماء الإسلام لا يُلاحظون أخطاء نسخية وقعت في النصّ القُرآني وانتقلت عبر أجيال من القُرّاء والحُفّاظ إلى أن وصلت إلينا

إلى أنّ الجيل الأول من المسلمين لم يصمتوا على وجود أخطأ سهوٍ ونسيان

ارتكبتها أيدي الكتبة والنّسّاخ في هذا الجيل

نأخذ على سبيل المثال 3 نماذج من الأخطاء ذكرتها المراجع الإسلاميّة بوضوح

كما أنكرها كبار الصحابة ولم يقرأوا بها على ما هي عليه في مصاحف الدولة أي بين قوسين في (المصاحف التي بين أيدينا)

النموذج الأوّل: في سورة الرعد الآية 31 «… أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا …» (الرعد: 31)

فكلمة (ييأس) قراءها بعض الصحابة والقراء أمثال (علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وعكرمة وعاصم الجحدريّ ومجاهد وسعد بن جبير وابن كثير وابن عامر وغيرهم جميعًا قراؤها (أفلم يتبيّن)

وفسّر مُعظم المُفسّرين (كلمة ييأس) بمعنى بين قوسين (يعلم) وذلك بحسب رأيهم في لغة النخع

إلى أنّ “الكسائي” كذّب كلّ من قال بهذا القول حين قال: “ما وجدت العرب تقول يئستُ بمعنى علمتُ البتة”

وحسم ابن عباس الموقف بقوله: “كتب الكاتب كلمة ييأس بدلًا من يتبيّن وهو ناعس”

فيبدو أنّ النّسّاخ أو الناسخ كان مُتعبًا لدرجة أنه كان يغفو وقت التدوين

النموذج الثاني: في سورة الإسراء الآية 23 «وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا…» (الإسراء: 23)

كلمة (وقضى) قراءها كبار بعض الصحابة والقُرّاء (ووصّى) كأمثال أبيّ بن كعب وعن قتادة أنّها كانت ووصّى في مصحف عبد الله بن مسعود

وكذلك قراءها ابن عباس والضحّاك بن مزاحم وقد علّل ابن عباس قراءته بالقول: “إنّ أصل الكلمة بين قوسين (ووصى) فالتصقت الواو الثانية بما بعدها أي بالصاد فصارت وقضى في أيام التنقيط”

ولحسم قراءة ووصّى يقول ابن عباس: “ولو كان على القضاء أي بين قوسين (وقضى) ما عصى الله أحدًا قط لأنّ قضاء الله ممتنع”

وهذا الطرح يوافقه ما جاء في سورة البقرة الآية 117 « بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (البقرة: 117)

إذًا لو قضى الله ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحسانًا لمَ وجدنا كافرًا بالله، ولا عاقًا للوالدين

لكنّ الموضوع يُفيد الوصية وليس القضاء، وذلك بوضوح في سورة الأحقاف الآية 15 «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ…» (الأحقاف: 15) إلى أخره.

إنّها واضحة كوضوح الشمس في كبد الشمس

فرغم هذا الوضوح نجد بعض عُلماء الإسلام أمثال “الرازي” يقولك “وأعلم أنّ هذا القول أي بين قوسين الصاق الواو بالصاد بعيد جدًا، لأنّه يفتح باب أنّ التحريف والتغيير قد تطرّق إلى القُرآن، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القُرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجّة ولا شكّ أنّه طعن عظيم في الدّين”

إذًا، الأمر لا يُقاس بمقياس الصحّ والخطأ، وإنّما ما يهُم عند الفقهاء هو توفير الأمان لمصداقيّة القُرآن وعدم الطّعن في الدين

ولهذا السبب فإنّ القول بوجود أخطاء في القُرآن من باب السهو والنسيان أمر غير مقبول عند عُلماء الإسلام

النموذج الثالث: جاء في سورة النور الآية 27 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا …» (النور: 27)

فكلمة (تستأنسوا) قراءها بعض كبار الصحابة كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وابن عبّاس (تستأذنوا)

وأجمع المُفسّرون على أن كلمة تستأنسوا تعني تستأذنوا

 ولمحاولة تبرير قراءة كلمة تستأنسوا يقول الفرّاء: “هذا مُقدّم ومؤخّر، إنّما هو حتى تسلموا وتستأنسوا السلام عليكم أأدخل

وهذا التبرير لا يقف على أرضية صلبة، فالقول: السلام عليكم أأدخل، هو من باب الأستاذان وليس الاستئناث

ولحسم الموضوع قال ابن عباس: “إنما هي خطأ من الكتاب” بكلّ بساطة

فقول ابن عبّاس في النموذج الثالث من الأخطاء النسخيّة التي ارتكبها النّسّاخ باعتراف بعض كبار الصحابة

تُفيد أنّ النّسّاخ الأوائل كانوا أناس يتعبون مثل باقي البشر، ممّا يجعلهم يقعون في مثل هذه الأخطاء

لكن حُرّاس العقيدة منذ البدايات الأولى لا يهمّهُم الوقوع في الخطأ بقدر ما يهمّهُم مصداقية النصّ القُرآني كما رأينا في قول الرازي

فرغم هذه الأخطاء النسخيّة لا زال الكثير من الدّعاة ورجال الدين ينكرون بشدّة وجود أخطاء في القرآن

ودفع الحرج والمُعضلة التي قد تسبّبهُ مثل هذه الأخطاء بالطعن في عصمة القُرآن

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة!


Download text file

Early History of Islam 082

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً