التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 83 | نموذج آخر من أخطاء النساخ في القرآن

سلام الله عليكم أحبّائي المشاهدين أهلًا وسهلًا بكم!

في الحلقة الماضية رأينا الأخطاء النسخيّة التي وقعت فيها لجنة جمع القُرآن، على رأسهم الصحابي القدير “زيد بن ثابت”

وقدّمنا 3 نماذج من هذه الأخطاء وهي كالتالي: كلمة (ييأس) في سورة الرعد الآية 31 وكانت في الأصل (يتبيّن)

وقد قال عنها ابن عباس: “كتبتها الكاتب وهو ناعس”

ثمّ كلمة (وقضى) في سورة الإسراء الآية 23 «وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا…» (الإسراء: 23)

 كانت في الأصل (ووصّى) كما هو الحال في سورة الأحقاف الآية 15 «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا…» (الأحقاف: 15)

حيث قال عنها ابن عباس: “التصق حرف الواو بالصاد وأصبحت تقرأ (وقضى) ولو كان على القضاء مع عصى أحدًا قط، لأنّ قضاء الله ممتنع”

كما جاء في سورة البقرة الآية 117 «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (البقرة: 117)

ثم النموذج الثالث كلمة (تستأنسوا) في سورة النور الآية 27 بيّنا أنّها كانت في الأصل تستأذنون، وبها فسّر مُعظم المُفسّرون كلمة تستأنسون

فالشيوخ والفقهاء لا يعترفون بوجود هذه الأخطاء النسخيّة حتّى لا يُتّهم القُرآن بالتحريف والتغيير

رغم أنّ اللّجنة دوّنت القُرآن من الصحابة كانوا بشرًا غير معصومين من الوقوع في خطأ سهوًا أو نسيانًا

اليوم سوف نُقدّم لكم نموذجًا أخر من الأخطاء، وهي من الأخطاء التي جاءت زمن التنقيط

لأنّ النصّ القُرآني كما تعلمون أعزّائي المُشاهدين لم يكُن مُنقطًا في البداية، كما هو الحال في مصاحفنا الحالية،

فالخطأ الذي اخترناه لكم اليوم تكرّر أربع مرات في نفس السورة سورة الصافات ومنها الآية 78 «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» (الصافات: 78)

وكذلك 108 «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» (الصافات: 108)

 و119 «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ» (الصافات: 119)

 و129 «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» (الصافات: 129)

فالمفعول لفعل بين قوسين (تركنا) محذوف بين قوسين (تركنا عليه) ماذا؟ في الأخرين

بحسب بعض علماء التفسير المفعول المحذوف تقديره الثناء الحسن، وكلمة بين قوسين (عليه) صفة لهذا المحذوف

وعند البعض تقديره الذكر بالخير، وعند آخرين السلام، وكذلك النسل والذرية وغيرها من التأويلات

فسياق الحديث في هذه الآيات الأربعة مُتكرّر تقريبًا بشكل حرفيّ يتحدّث عن نجاة الأنبياء من محنٍ كُبرى،

كنجاة نوح وأهله من الطوفان الآية 76 «وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» (الصافات: 76)

 كذلك إبراهيم بنجاة ابنه من الذبح فدائه بذبيحة مُقدسة الآية 107  «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (الصافات: 107)

وكذلك عند موسى وهارون أنجاهما وقومهما من فرعون، وجنوده بشقّ البحر الآية 115 «وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» (الصافات: 115)

كذلك إلياس النبي إلياس أو إيليا نجّاه الله من قومه الذين كانوا يعبدون الإله بعل

كذلك النبيّ لوط نجّاه الله من تدمير بلدته الآية 134 «إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ» (الصافات: 134)

كذلك النبي يونس أنجاه الله من بطن الحوت، فكلّ هذه القصص تُفيد بخروج هؤلاء الأنبياء من محن كُبرى بفضل البركات وسلام الله عليهم

ونجد هذا السّلام مقرونًا بهم كما يتّضح من الآية 79 «سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ» (الصافات: 79)، وفي الآية 109 «سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ» (الصافات: 109) و 120 «سَلَامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ» (الصافات: 120) و 130 «سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ» (الصافات: 130)

أمّا البركات فهي واضحة جدًا في الآية التي تذكُر إسحاق وذلك في الآية 113 « وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ  – أي إبراهيم – وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ» (الصافات: 113)

نُلاحظ في المخطوطات القديمة كلمة (وباركنا) بدون ألف المدّ بعد حرف الباء

وجاء رسمها بالضبط كرسم كلمة (وتركنا)  (وىركىا)

 ممّا يجعل الباحث يُفكّر بوجود خطأ في التنقيط بسبب أنّ معنى الآية غير واضح ولا سيّم بعدم ورود المفعول لفعل تركنا

فالآيات الأربعة منها الآية 78 «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» (الصافات: 78)

وكذلك 108 وكذلك 108 «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» (الصافات: 108)

 و 119 «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ» (الصافات: 119)

 129 «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» (الصافات: 129) يمكن قراءتها (وبركنا عليه في الأخرين)

لتكون هذه البركة والسلام على كلّ هؤلاء الأنبياء ولا تخُصّ فقط إبراهيم وإسحاق

فالرسول محمّد بحسب المراجع الشيعيّة والسنيّة يأمر أتباعه بالصلاة والسلام والتبريك على كلّ الأنبياء

ففقي الصحيحين أي (صحيح البخاري وصحيح مسلم) عن ابن مسعود “التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين”

وفي الصلاة الإبراهيمية “اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محّمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد”

ممّا يُدعم القراءة بالتبريكات، ومستبعدًا لمعضلة المفعول المحذوف في قراءة (وتركنا) والتقدير أو التقديرات التي يُمكن وضعها لهذا المفعول

ونقطة أخيرة يُمكن الحديث عنها في هذه التبريكات بخُصوص النبيّ إلياس أو النبي إيليا

بحسب التناخ في سفر الملوك الثاني في عهد الملك أخاب حيث أُضيف حرف السين في أخر الكلمة، وذلك للصيغة اليونانية كالنبي يونس في الأصل كانت يونان إيليا إلياس يونان يونس

فكلمة إيلياء أو إيليا باللغة العبريّة معنها إله، إلهي، يهوه

وفي الآية 130 «سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ» (البقرة: 130) وكأنّه جزء تركيبة الاسم إلياسين إلى إيل بمعنى إله وياسين ياه بمعنى يهوه، والسين أي حرف السين وقُلنا: أضيفت للصيغة اليونانيّة

أما (ين) فهي لتكملة القافية، ولا نقول للضّرورة الشعريّة لأّن النصّ القُرآني ليس بشعر

وإنّما لأنّ القافية (ين) توجد في معظم الكلمات في نهاية الآية كسجع لتسهيل حفظ النصّ

ككلمات المُخلصين الآخرين إلياسين المُحسنين المؤمنين المُرسلين إلى أخره

وهذه الطريقة كانت موجودة قبل الإسلام، وبقيت تستعمل لتسهيل حفظ النّصوص إلى وقتنا الحاضر

 وكنموذج من الماضي السحيق نجد كتاب (الفيدا) الكتاب المُقدّس للديانة الهندوسية

وهو عبارة عن ترانيم وتراتيل تُقرأ في الصلوات، ثمّ نجد في التّناخ عند اليهود مثل هذه الأشعار المُقدّسة كما هو الحال في سفر المزامير

ونحن في المغرب نجد شيوخ التّعليم العتيق يُحفّظون طلّابهم المنظومة النحويّة واللغوية كألفية “ابن مالك” في قالب شعري جميل

فحتى التعليم اليهودي يستخدم هذه الطريقة لحفظ النصوص عن ظهر قلب، وكمثال على ذلك نجد كتاب (الأرجوزة الفارحيّة) للحاخام هليل بن يعقوب فارحي

وجزئية (ين) في سورة كما رأينا في أخر كلمات الآية كانت ولا زالت ضروريّة لحفظ النصّ في هذه السورة بين قوسين (سورة الصافات)

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في الحلقة القادمة!


Download text file

Early History of Islam 083

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً