التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 88 | جدلية أهل الكهف عند السريان

السلام عليكم وبركة الله ورحمته!

في الحلقة الماضية كُنّا بدأنا الحديث عن أصحاب الكهف كقصّة مؤثّرة في النصّ القُرآني من التُراث المسيحي السرياني كجزء من البيئة التي ظهر فيها هذا النصّ العربي المُقدّس

وكما وعدتكم سوف نغوص مع بعض في دهاليز هذه القصّة، ونرى هذا التفاعُل المُباشر بين الثقافة السريانيّة والقُرآن

للتذكير، رأينا أن الخطاب القرآني في سورة الكهف موجّه لأصحاب هذا الموروث المسيحيّ،

خاصة عندما يُشير في مُقدّمة السورة، أي سورة الكهف لمن يهمّهم الأمر في الآية 4 «وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا» (الكهف: 4)  أي من المسيحيّين أو النّصارى ممّا يؤمن أنّ لله ولد

كما نستنبط من الآية 30 من سورة التوبة، «… وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ… » (التوبة: 30)

ولا علاقة لأهل قُريش الوثنيّين بالموضوع،

رأينا كذلك أنّ القُرآن يصدق العناصر الأساسية لهذه القصّة من هروب فتية بدينهم إلى كهف قصد حماية أنفسهم من بطش المُجتمع الذي عاشوا فيه طالبين الرّحمة والحماية الإلهيّة

فناموا مئات السنين داخل هذا الكهف، وبعثهم الله من جديد، لكي يكونوا عبرة ومُعجزة لغيرهم

وكلّ هذه العناصر موجودة في القصّة السريانيّة، قبل الإسلام أيام “مار يعقوب السروجي” في نهاية القرن الخامس، وبداية القرن السادس الميلادي.

وصار عليها تنقيح على هذه القصّة فيما بعد أيّام العلامة “باباي” الكبير من الكنيسة النسطوريّة نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الميلادي

ولكن هناك تغييرات وقعت في هذه القصّة لا نعرف على وجه الدقّة هل كانت موجودة في الموروث الشّفهي العربي المسيحيّ، أم هي فقط قراءة خاطئة للنصّ أيام تنقيط الأحرف العربيّة،

وعلى سبيل المثال يقول النصّ القُرآني: «…وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ…» (الكهف: 18)

بينما القصّة السريانية تقول على هذا الحارس “عيرا” أي ملاك الربّ يحرس رفاتهم.

وبالرّجوع لرسم الكلمة وكلبهم، وبحسب مادّة الفيلولوجيا يُمكن قراءة هذه الكلمة (كلىهم) قبل التنقيط والتشكيل كما قراءها “أبو عمر الزاهد” وكالئهم باسط ذراعية بالوصيد،

اسم فاعل من كلأ أي حافظهم، كما جاء في سورة الأنبياء الآية 42 « قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ ۗ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ» (الأنبياء: 42)

أو كما قراءها الدّكتور “كرستوفر لوكسمبرج” (وكليهم باسط ذراعيه بالوصيد) بمعنى حافظهم ومنه جاءت تسمية الكلية العضو في الجسد الذي يحفظ الدمّ من الفساد

هناك فرضية أخرى مهمّة يُمكن من خلالها فهم المتوازيات بين رمز الملاك الحارس في القصة السريانيّة والكلب المرافق في النصّ القُرآني،

بما أنّ هؤلاء الفتية لبثوا في كهفهم سنين عديدة، رقود كالأموات ينتظرون يوم القيامة أو حدوث مُعجزة كما جاء في هذه القصّة.

فالكلب هو رمز من رموز الفلسفيّة والدينيّة القديمة غالبًا ما يُشير لمُشرد الأرواح

كبعض الملائكة أو بعض الآلهة اليونانيّة، ويُسمّى ψυχοπομπός يقود أرواح الموتى بأمان إلى العالم الأخر

ورُبّما وجود كلب في القصّة القُرآنيّة نتيجة رواية شفاهية كانت مُتداولة بين العرب واليهود أيام مُحمّد

لهذا نجد أحد اليهود وهو “كعب الأحبار” يقُصّ على المُسلمين بعد إسلامه خُرافة الكلب الذي تكلّم مع أصحاب الكهف بلسان البشر فقال أي الكلب:

 “ما تريدون مني؟ لا تخشوا جانبي، أنا أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم” كما رأينا في الحلقة الماضية

ننتقل الآن إلى مسألة عدد الفتية، فالنصّ القُرآني يُقدّم الاحتمالات التي وجدت في عصر الرسول وذلك في الآية 22 من سورة الكهف

«سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ …» إلى أخره (الكهف: 22)

فتية أفسس في التّراث المسيحيّ السريانيّ هم سبعة Malchus Maximian Martinian Dionisius John Serapion Constantine

لكن هناك بعض الروايات المسيحيّة تتحدّث عن أعداد مختلفة، حيث نجد في تلك الفترة جالية من السريان اليعاقبة بمنطقة نجران تقول بوجود 3 فتية فقط، بينما السريان النساطرة يقولون بوجود 5

وهناك بعض الروايات تقول ب 8 إذًا القُرآن ابن بيئته، نقل لنا بأمانة الجدل القائم في القرن السابع الميلادي بين أصحاب الروايات المسيحيّة في عدد أفراد هؤلاء الفتية

ولم يحسم الأمر بين هذه الروايات واكتفى بالقول: «… قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ…» (الكهف: 22)

وهنا تظهر قوّة النصّ القُرآني باعتبار هذه القصة رمزيّة وليست تاريخيّة، وإلّا لما سكت على الإدلاء بعددهم الحقيقي باعتباره وحي من عند الله

ننتقل إلى عدد السنين، فالقُرآن مرّة أخرى لا يذكُر عدد السنين لرمزيّة القصّة، حيث قال: «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا.. »  في (الكهف: 26)

لكن قبلها ذكر رقمًا مُهمًّا للغاية حيث قال: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا» (الكهف: 25)

وهنا نرى بوضوح عدد سنين بالحساب القمريّ، وذلك عند العرب، وهي ثلاثة مئة تُضاف عليها تسع سنين كنسيء لتُعطي 3 قرون بالحساب الشمسي باختلاف 11 يوم في السنة بين الحسابين.

إذًا مرّة أخرى القُرآن ينقل لنا خلفيّته البيئيّة، ونتساءل لماذا تحدّث عن عدد السنين؟

والجواب موجود في الروايات المسيحيّة، خاصة التي اعتبرت هذه القصّة حقيقة تاريخيّة.

قيل مكث هؤلاء الفتية في كهفهم من الحكام الروماني Decius 249 – 251 م إلى الإمبراطور Theodosius 408 – 450 م

ففي التنقيح الأول “لمار يعقوب السروجي” وفق الحساب اليوناني، 392 سنة

وفي التنقيح الثاني 350 سنة وفق الحساب اليوناني كذلك،

وذكر المؤرخ الكنسي “يوحنا الإفسيسي” في القرن السادس الميلادي عدد الفتية 8 وعدد السنين 370 سنة

بينما “زكريا الميليطيني” من وهو عاش ما بين 465 إلى 536 م ذكر عددهم 7 فتية كان قائدهم هو “إقليدس” وعدد السنين 200 سنة تقريبًا.

إذًا، خُلاصة القول في هذه الحلقة: هو أنّ القُرآن تفاعل مع مُحيطه البيئيّ، وقدّم لأتباعه وخصومه رؤيّة لاهوتيّة إسلاميّة حول قصة أصحاب الكهف

مبنيًا على الجدل القائم بين الروايات المُنتشرة في مُحيطه مع اختلاف عدد الفتية أبطال هذه القصة

 والسنين التي رقدوا فيها مُصدّقًا لجوهرها أو لجوهر الفكرة من إيمان هؤلاء الفتية بالله وهروبهم بدينهم الجديد من عبادة آلهة عصرهم

ونومهم في كهف أكثر من قرنين أو ثلاثة، ثمّ أقامهم الله من نومهم ليكونوا عبرة ومُعجزة إلهيّة على البعث والحياة الأخرى.

لم نُكمل الموضوع في هذه الحلقة، انتظرونا لتكملته في الحلقة القادمة وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 088

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً