التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 92 | تطور الجنين بين القرآن وجالينيوس

أهلًا بكُم أحبّائي الكرام!

نُكمل في هذه الحلقة موضوع أطوار الجنين في الموروث الإسلاميّ واليهوديّ والمسيحيّ وعند الفلاسفة والأطبّاء قبل القرن السابع عشر الميلادي،

مُقارنة بما توصّل إليه علم الأحياء في عصرنا الحاضر.

كنا قد تحدّثنا في الحلقة الماضية عن نظرية الجنين القزم في القُرآن التي أتى بها الأطبّاء والفلاسفة قبل الإسلام كفيثاغورس وأرسطو وأبقراط

واليوم نُكمل موضوع تطوّر الجنين.

مُنذ عصر الطبيب الإغريقي “كلوديوس جالينيوس” في القرن الثاني الميلادي عفوًا! والإنسان يعتقد بوجود أربع مراحل لطور الجنين في بطن أمّه

وقبل هذه المراحل اعتقد الإنسان أنّ الحيوان المنوي للرجل يحتوي على إنسان قزم يبدأ نموّه مُباشرة بعد زرعه في رحم أمّه وتُسمّى هذه النظرّية Spermisim

وهذا ما استنبطناه كذلك من بعض الآيات القُرآنيّة في الحلقة الماضية

وقد ناقشت هذا الموضوع مع الدكتور أو البروفسيرة Marie Odile Rethore سنة 2012 ميلادية وهي عضو في الهيئة العلمية الأكاديمية في طب في )معهد جيروم( في باريس

أمّا المراحل الأربعة كما ذكرها جالينيوس نجدها في كتاب (Corpus Medicorum Graecorum)

والمرحلة الأولى لتكوين الجنين يُسمّيها جالينوس بالسائل المنوي، وكذلك يُسمّيها أرسطو،

 إذًا المرحلة الأولى هي عبارة عن سائل يُعبّر عنها في القُرآن بالنطفة كما جاء في العدد كما قُلنا النحل: 4 «خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» (النحل:4)

الكهف: 37 «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا» (الكهف: 37)

الحج: 5 «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (الحج: 5)

فاطر: 11 «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۚ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (فاطر: 11)

يس: 77 «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» (يس: 77)

غافر: 67 «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (غافر: 67)

النجم 46 «مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ» (النجم: 46)

القيامة: 37 «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَىٰ» (القيامة: 37)

الإنسان: 2 «إِنَّاخَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا» (الإنسان: 2)

عبس: 19 «مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» (عبس: 19)

يُقال: نطفت القربة إذا قطرت وسالت، إذًا النطفة بمعنى قليل من الماء،

ولهذا جاء في سورة الفُرقان الآية 54 «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا …» الفرقان: 54) إلى أخره.

كذلك في سورة السجدة الآية 8 « ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ» (السجدة: 8)

والمُرسلات: 20 «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ» (المرسلات: 20) وغيرها من الآيات.

ثمّ بشكل عام يقول في سورة النور الآية 45 «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ۖ…» (النور: 45)

وهذا الماء يصفه القُرآن بالضعف أو الضعيف، ماء مهين، هذا الماء دافق يخرج من بين الصُلب والطرائق، كما جاء في سورة الطارق الآية 6 « خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ» (الطارق: 6)

أي من بين الصدر والظهر، أمّا جالينيوس فيقول: “إنّ السائل المنوي يخرج من الخصيتين”

ما قبله قبل جالينيوس فالخصيتان لها دور في إعطاء القلب قوّة الدّفع عند القذف، وليس في التكوين المنوي

إذًا، ماء مهين يحصل على قوّة الدّفع من الخصيتين، والرّجل بعد الجماع يشعُر بالضعف، يحتاج استراحة للقيام بعملية أخرى

ومن هنا نُلاحظ وجود فكرة خروج المني من بين الصُلب والطرائق، نابعة من مفهوم قديم يقول بخروج السائل المنويّ من عُصارة القلب.

ودور الخصيتان الدّعم في إعطاء القلب القوّة فقط، وليس الإنتاج التي تدعمها فكرة خروج نسل آدم من بين أضلاعه

أمّا المُدّة الزمنيّة لهذه المرحلة فعند جالينيوس تُقدّر بستة أيام أمّا قبله عند أرسطو فهي أطول

فالقُرآن لا يذكُر مُدّة مرحلة النطفة، لكن هناك أحاديث تقول إنّ مُدّتها تُقدّر بأربعين يومًا

كما هو السائد عن فُقهاء الإسلام بحسب الأحاديث.

لاحظ جالينيوس أنّ المولود يُشبه أباه أو أمّه، وبالتالي: لا شكّ أنّ هذا ناتج عن وجود المنيّ عند المرأة كما هو عند الرّجل.

فتحديد الشبه أفترض أي جالينيوس وجود مني أقوى هو من يُحدّد هذا الشبه، سواء أن كان للآب أو للأم

 والعجيب أنّ بعض الأحاديث جاءت بهذا المفهوم، ظهرت أيام ثورة الترجمة في العصر العبّاسي

نذكُر ترجمة “حُنين بن إسحاق” في القرن التاسع الميلادي، لكُتب جالينيوس وابنه كذلك “إسحاق بن حُنين بن إسحاق” ولد سنة 830 وتوّفي 910 وابن أخته “حبيش بن الأعمش” وكذلك المترجم “عيسى بن يحي” وغيرهم من المترجمين

وقد ذكرت (دائرة المعارف الإسلامية) أنّ لهذا العالم الجليل جالينيوس أزيد من 120 كتابًا

وأخبرتنا عن سر ترجمة هذه الكُتب من طرف نصارى في مُعظمهم، لأنّ تعاليم الفلسفة والطبّ الإغريقيين سنة 500 ميلاديّة

أصبح جُزء من التعليم النّصراني، واستمر هذا النهج إلى حوالي 1500 ميلاديّة كما تُخبرنا على أنّ “حنين بن إسحاق” سجّل ما يُناهز 123 كتابًا تُرجم للغة العربيّة

ممّا يعني أنّ هؤلاء المترجمون قاموا بإضافة شروح وتفاسير لكُتب جالينيوس

 كما تُخبرنا أنّ أئمة الطب المسلمون اعتمدوا اعتمادًا كليًا في تعليم الطب عليه أي بين قوسين (جالينيوس)

كأمثال “محمّد بن زكريا الرازي” و”ابن سينا” وكثيرون غيرهم.

المرحلة الثانية وهي العلقة، يُخبرنا “ابن منظور” في (لسان العرب) تعني الدم الجامد الغليظ، وبذلك فسّر مُعظم علماء الإسلام على رأسهم الطبري

وهذا الدم الجامد الغليظ يتكون في البداية بحسب بعض الأحاديث النبوية من ماء الرجل ولونه أبيض غليظ

 وماء المرأة أصفر رقيق يختلط ماء الرجل بماء المرأة حيث جاء في تفسير الطبري عن الرسول قال: “هل تعلمون أنّ ماء الرّجل أبيض غليظ وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبيه بإذن الله” انتهى الاقتباس.

ثم يعلق الخليط في الرّحم، فيبدأ بالميل نحو اللّون الأحمر بفعل امتصاصه بدم الرّحم، وخاصة دم الحيض

 ولهذا تنقطع العادة الشهريّة عند المرأة مع بداية هذه المرحلة، يعني مرحلة الحمل

كما تمتصّ دودة العلَق بدم الحيوان عندما تلتصق به، أو تمتصّ أي دودة العلَق دم المريض بالأورام الدموية كعلاج لها أي لهذه الأورام

ولهذا سُميت هذه المرحلة بالعلقة، وبهذا المفهوم قال العلّامة “أنور شاه الكشميري” في كاتب (فيض الباري لشرح صحيح البُخاري)

ويُقدّر عُلماء الإسلام مرحلة العلق بأربعين يومًا كذلك بينما جالينيوس لا يذكُر مُدّة الجلطة بين قوسين (العلقة)

بحسب رأيه يمتلئ السائل المنوي بالدمّ مع أخذ حجم أكبر وبداية تكوين القلب والدماغ والكبد بعدها تأتي المرحلة الثالثة

وتُسمّى بالمُضغة، بينما يُسمّيها جالينيوس بالجنين، ومفهوم المُضغة في اللّغة العربية كما جاء في (لسان العرب) لابن منظور القطعة من اللّحم

وفي (التهذيب) المضغة من اللحم قدر ما يُلقي الإنسان في فيه،

 وفي رواية عن ابن مسعود قال، أي قال الرسول: “بأنّ الله يُنزّل ملاكًا لينفخ في هذه المضغة روحًا” هذا يعني أنّ المرحلتين النُطفة والعلقة بلا روح

حيث جاء في أكثر من 90 مرجعًا إسلاميّة تفسير، كتفسير عفوًا (القُرطبي) “ثم يُرسل الله الملاك فينفخ فيه الروح” إلى أخره.

والسؤال المطروح: لماذا لم ينزل الملاك المانح للروح في المرحلتين الأولى والثانية؟

للردّ على هذا السؤال انتظرونا في الحلقة المُقبلة، وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 092

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً