التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 93 | نفخ الروح عند اكتمال تكوين القلب

أهلًا بالجمهور الكريم!

تحدّثنا في الحلقة الماضية عن المراحل الأولى في تطوّر الجنين،

ووصلنا لمرحلة المُضغة، طرحنا سؤلاً مُهّمًا استنادًا لما جاء في حديث عن “ابن مسعود” قال: بأن الرسول أخبرهم عن نزول الملاك في نهاية مرحلة المُضغة ينفخ الروح فيها.

وطرحنا سؤال كما قلت : لماذا لم ينزل الملاك المانح للروح في المرحلتين الأولى والثانية؟

لعلّ الجواب يكون في أنّ هذه المرحلة، يكون القلب قد أصبح موجدًا بحسب معرفة أطوار الجنين في عصر الرسول

وقد رأينا أنّ جالينيوس أشار إلى وجود قلب غير كامل المعالم في المرحلة الثانية،

 وهذا القلب لا شكّ أنّه بدأ يعمل في المرحلة الثالثة

وبالتالي يكون حسب معرفة الرسول، هو المكان المُحتمل لاستقرار الروح،

حيث تُشير المراجع الإسلاميّة لمعنى ذلك، ونذكُر منها ما جاء عن فخر الرازي أو “فخر الدين الرازي” عفوًا في مناقشته حول حُصول الحياة

قال: “واعلم أنّ حصول الحياة في النّار غير مُستبعد. ألا ترى أنّ الأطباء قالوا المُتعلّق الأوّل للنّفس هو القلب والروح، وهما في غاية السخونة، وقال جالينيوس -يقول الرازي – : إنّي بقرتُ مرّة بطن قردٍ فأدخلت يدي في بطنه، وأدخلت أصبعي في قلبه فوجدته في غاية السخونة بل تزيد، ونقول: أطبق الأطباء على أنّ الحياة لا تحصل إلّا بسبب الحرارة” إلى أخره

من هذا المرجع نرى مدى تأثير جالينيوس على تفسير عُلماء الإسلام وتصورهم بحصول الحياة لا يتمّ إلّا بوجود قلب كامل لتسكُن الروح فيه

بما أنّ القلب قبل المرحلة الثالثة غير كامل، فالجنين لا يُعتبر كائنًا بشريًا بروح

ولهذا نجد إجماع علماء الإسلام على أنّ إسقاط الحمل في المرحلتين الأولى بين قوسين (النُطفة) والثانية بين قوسين (العلقة) ليس فيها حُكم

ولهذا جاء في سورة الحجّ الآية 5 « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ …» (الحج: 5) إلى أخره.

وتعليقًا عن عبارة مُضغة مُخلّقة وغير مُخلّقة ذكر الإمام “الشنقيطي” مسألتين

المسألة الأولى: إذا الرحم مزج النُطفة في طورها الأوّل قبل أن تكون علقة فلا يترتب على ذلك حكم من أحكام إسقاط الحمل، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء،

المسألة الثانية: إذا سقطت النُطفة في طورها الثاني، أعني في حال كونها علقة أي قطعة جامدة من الدم،

 فلا خلاف بين العلماء في أنّ تلك العلقة لا يُصلّى عليها ولا تُغسّل ولا تُكفّن ولا ترث” انتهى الاقتباس

وفي هذه المرحلة بالذّات، أي المُضغة يتمّ تحديد أيام العدّة عند الزوجة المُطلقة، كما جاء في سورة البقرة الآية 228 «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ…» (البقرة 228) إلى أخره.

أو عند الأرملة التي توفّيَ زوجها بحسب الآية 234 « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا …» (البقرة: 234)

ولهذا نجد عُلماء الإسلام يذهبون إلى أقصى مُدّة يُكمن أن تكون عليه المُضغة مُخلّقة غير مُخلّقة،

ففي حديث لابن عبّاس ذكره “القُرطبي” في تفسيره قال: “وفي العشر بعد الأشهر الأربعة يُنفخ فيه الروح (الجنين)، فذلك عدّة المُتوفّى عنها زوجها؛ أربعة أشهر وعشر” انتهى الاقتباس.

وبالمُقارنة لما سبق الإشارة إليه في الحديث لابن مسعود: “إنّ أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مُضغة مثل ذلك، ثم يُرسل الله الملك، فينفُخ فيه الرّوح” إلى أخره

إذًا مرحلة المُضغة مرحلة الوسط بين المخلوق وغير المخلوق.

وهنا يكتشف الأستاذ “كرستوفر لوكسمبرج” سرّ هذه الكلمة (م ص ع ه) التي كانت في المصاحف الأولى والمخطوطات القديمة ما هي سوى (مُصع) بمعنى في اللّغة الآرامية (يتوسّط- يكون وسيطًا- يكون في الوسط -ينقسم نصفين)

بكلّ وضوح يُشير هذا المعنى إلى عبارة «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ …» (الحج: 5)

ثمّ تأتي المرحلة الرابعة بين قوسين خلقًا أخر (الجنين الكامل) كما رأينا في سورة المؤمنون الآية 14 «… ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (المؤمنون: 14)

عن ابن عبّاس، خلقًا أخر “يعني فنقله من حالٍ إلى حالٍ إلى أن خرج طفلًا” انتهى الاقتباس

يقول جالينيوس: بأنّ مرحلة الحمل عند الإنسان أقصر مُدّة هي ستّة أشهُر، أمّا أطول مُدّة فهي تسعة أشهر،

 بينما لا يوافقه علماء الإسلام فيما يخُصّ أطول مُدّة للحمل

وذلك بحسب تفسير سورة الرعد الآية 8 «اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ» (الرعد: 8)

حيث تصل عند المالكيّين إلى خمسة سنوات كما جاء في (تفسير النسفي)

وإلى أربع عند الشافعي، وسنتين كام جاء في تفسير (الطبري)،

وهناك بعض علماء الإسلام قالوا: إنّ مُدّة الحمل لا حدّ له

من هنا النصّ القُرآني يمكن تأويله بحسب ثقافة ومعرفة المُفسّر، عن أطوار الجنين في عصر الرسول ولا في عصرنا الحاضر

فرغم وجود نظرية شائعة لجالينوس إلى القرن السابع عشر الميلادي،

فعلماء الإسلام لم يأخذوا عنه كلّ ما قدّمه في هذا الموضوع رغم وجود ذكره في حوالي 778 مرجعًا إسلاميًا كما أخبرنا “ابن أبي أصيبعة” في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)

كما رأينا في أطوار مرحلة الحمل، ففي عصرنا الحاضر أصبحت نظريّة جالينيوس في خبر كان

فقد ردّ عليه الكثير من الأطباء عصرنا وفنّدوا نظريته، أذكر من بينهم الدكتورة الفرنسية Christine Bonnet Cadilhac  في رسالتها للدكتوراه سنة 1997

أشارت إلى المُجلّد الرابع عشر من كتاب جالينيوس والتي تحدّث فيه عن دراسة للأعضاء التناسليّة وعلاقتها مع باقي أعضاء الجسم في تكوين الجنين، مُعتمدًا في بحثه على ما يراه بعد التشريح بين قوسين (بعض الحيوانات)

مُستعملًا خيالًا سفساطيًا كما تقول هذه الدكتورة الفرنسيّة للوصول إلى النتيجة التي توصّل إليها

إذًا ما رأينا في القُرآن ابن بيئته يُقدّم لنا النظرية التي كانت موجودة في عصره عن أطوار الجنين

لا تختلف عما قدّمه الطبيب الإغريقي كلوديوس جالينيوس في القرن الثاني الميلادي

وهذا الموضوع قد سبقني إليه الدكتور “خالد مُنتصر” تحيّة له من هذا المنبر، ردًا على وهم الإعجازيين

خُلاصة القول: فأطوار الجنين في الإسلام لا بدّ من المرور عبر ما جاء في القُرآن والأحاديث لسدّ باب تأويل نصّ القُرآن بما لا يحمله من معنى ولوي عُنق من اجل بيع الوهم للمُسلم البسيط

وتصديق خُرافة الإعجاز العلمي في القُرآن والسنة.

سوف نعود لتكملة موضوع أهل الكهف فيما يخُصّ البيئة التي ظهر فيها القُرآن وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 093

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
19 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
14 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً