التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 95 | أصل قصة أهل الكهف؟

أهلًا بالجمهور الكريم!

في الحلقة الماضية قدّمنا النظرية العلمية المُعاصرة لأطوار الجنين، مُقارنة بما قدّمه النص القُرآني في العديد من الآيات كالآية 5 من سورة الحج «أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ…» (الحج: 5)

ورأينا خلال ال 3 حلقات أنّ النص القُرآني نقل بأمانة النظرية العلمية لأطوار الجنين في عصر ظهوره

مبنيّة في مُعظمها على ما توصّل إليه الطبيب الإغريقي كلوديوس جالينيوس في القرن الثاني الميلادي

وكذلك فلاسفة والأطباء قبله كفيثاغورس وأرسطو وأبقراط

وهذه النظريات لم تعُد مقبولة في عصرنا وقد فنّد العديد من الأطباء نظرية جالينيوس كالطبيبة كما قلنا الفرنسية   Christine Bonnet Cadilhac في رسالة الدكتوراه سنة 1997 م

لأنّها نظرية تأسّست على المُلاحظة بالعين المُجرّدة أثناء تشريح بعض الحيوانات

بينما الطبّ في عصرنا الحاضر يعتمد على أجهزة متطورة، كالمكروسكوب الإلكتروني

ورغم هذه الاكتشافات المُذهلة لا زلنا نجد شيوخًا ومُفكّرين يعتقدون ببُطلان ما وصل إليه العلم الحديث

أمّا ما جاء في الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية ككلام «لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ …» (فصلت: 42)

وعلى علماء عصرنا أن يتراجعوا عما تصولوا إليه،

ومن هؤلاء المُفكّرين والشيوخ من حاول إخضاع هذه العلوم لخدمة المصطلحات القرآنية كالنطفة والعلقة والمضغة، والأمشاج

بل وأصبحت تُدرّس في مدارسنا على أنّها حقيقة علمية عالمية

نعم، في عُصور العلم والمعرفة أيام ما تُسمّى بالحضارة الإسلاميّة، كانت هناك أو كان عفوًا أطباء وفلاسفة مُسلمين تعلّم منهم الغرب، بل والبشرية كلها.

كفّروا ولُعنوا على المنابر كأبي بكر الرازي وابن سينا وابن النفيس وابن الهيثم واللائحة طويلة من هؤلاء العُظماء

اعتمدوا على الكتب الفارسية والسريانية والإغريقية وغيرها التي تُرجمت إلى اللغة العربية من طرف مُترجمين أكفاء كحُنين ابن إسحاق

وطوّروا هذه العلوم ولم يتعدّوا على حُرمة النص القُرآني، وتطويعه لمصالحهم كما يفعل الشيوخ وبعض المفكّرين المُسلمين في عصرنا الحاضر

فلو كان كلامهم صحيحًا لكانوا هم السبّاقين للاختراعات الطبيعة الحديثة كاللقاح Covid 19

ولما تركوا حكومات بلادهم تتسابق نحو شراء اللقاح الصيني والهندي والروسي، كأنّه إنجاز عظيم.

نعود لإكمال موضوع قصّة أهل الكهف، والبيئة التي ظهر فيها القُرآن

قُلنا: إن استحضار النص القُرآني لقصة من الموروث المسيحيّ السرياني،

لتقدمة الجدلية القائمة بين المذاهب السريانية فيما يخُصّ أساسيات هذه القصة

من عدة أو عدد الفتية والسنين التي مكثوا فيها بكهفهم، واختلاف رجال الدين السريان في تفاصيل القصّة

حتى يُظهر عدم ثبوت علمهم في قصة بسيطة من تُراثهم

بقي نقطة مهمة في تفاصيل القصة بين الرواية السريانية ونظيرتها القُرآنية

وهي: مسألة بناء مسجد على هذا الكهف، تقول آية 21 من سورة الكهف «…فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ۖ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» (الكهف: 21)

بينما الرواية السريانية تُفيد وقوع حوار بين الموجودين وقت رجوع الفتية لكهفهم قصد العودة إلى نومهم الأبديّ

في البداية اقترح الإمبراطور Theodosius 11 أن يُعيد أو يعيدهم إلى مدينة أفسس،

حيث سيُبنى كنيسة فوق قبورهم، ولكن الفتية طلبوا أن يُتركوا في كهفهم،

وبعد عودتهم لنومهم في هذا الكهف تقول رواية أخرى في التاريخ الكنسي السرياني

بُني فوق الكهف بيت صلاة، (بيتا صالوتا). إكرامًا لهم

وخلاصة القول: النصّ القُرآني يُخاطب مُجتمعًا عارفًا بهذه القصة، ربما من المسيحيين العرب يؤكّد على مسألة القيامة من الموت

كحقيقة لا شكّ فيها، ثم يُقدّم لأصحاب هذه القصة طرحًا أخرًا استعصى على فهم المُشركين بصفتهم أتباع الثالوث المُقدّس الذي يُنكره صاحب القُرآن

فكما قُلنا: الخطاب كان موجهًا للمسحيين حين قال في الآية الرابعة من سورة الكهف «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا» (الكهف: 4)

رغم أنّ هؤلاء الفتية، فتية أفسس كانوا مسيحيّين بحسب القصّة السريانيّة،

يشهدون باسم الآب والابن والروح القُدس الإله الواحد، بخلاف دين الدولة الرومانية آنذاك، وإيمان الإمبراطور Decius بالثالوث زييوس وأبولو وآرتيميس،

فالنص القُرآني يُبرأ هؤلاء الفتية من الشرك بالله، ولذلك قال في الآية «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا» (الكهف: 10)

قد يقول قائل: كلمة (ربّنا) يستخدمها المسيحيون في دعائهم وصلواتهم ويقصدون بها الثالوث المُقدّس

الربّ يكون على هذه النقطة موجود في الآية التي بعدها، تقول: «مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا» (الكهف: 5)

والكلمة هنا هي القول بأنّ (لله ولدًا).

ووضّح هذه الحقيقة بالنسبة لاعتقداه في الآية 13 «… إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى» (الكهف: 13)

وبالتالي: كلّما جاء من اختلافات في قصة أهل الكهف بين المذاهب السريانية، فالله هو من يعلم بحقيقتها

فبعدما عرض هذه الاختلافات قال في الآية 26 «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا» (الكهف: 26)

فالجزء الأخير من الآية (ولا يُشرك في حُكمه أحدًا) يُقدّم القُرآن الطرح اللّاهوتي في عقيدته التي تُنكر بلا شكّ عقيدة التثليث،

هذه القصّة في القُرآن رغم التلميحات لها ولم يذكُر تفاصيلها إلّا أنّها تُفيد مُجتمعًا عربيًا مسيحيًا واعيًا بهذه القصة وأبعادها اللاهوتيّة

فبالتالي المُجتمع الذي ظهر فيه القُرآن هو مُجتمعًا لا يمُتّ بصلةٍ للوثنية،

لأنّ الوثنيين لا تعنيهم مثل هذه القصص المسيحيّة ولا يعرفونها

فوجودها في القُرآن ليس عبثًا، وإنّما من أجل تقديم الحجّة على فهمهم الخاطئ لتصوّر الإله، له شُركاء وأبناء

جاء ليُصحّح ما يعدُّه واحدًا من الأخطاء الجوهريّة في عقيدتهم

فالقُرآن يستحضر مثل هذه القصّة بطريقة تنُمّ عن افتراض أنّ المُخاطبين أو المُخاطبين أيضًا مُطلعون جيدًا عليها

ولهذا، اعتبرها من أحسن القصص كما جاء في سورة يوسف الآية 3 «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ» (يوسف: 3)

وفي سورة الكهف الآية 13 كذلك تقول الآية: «حْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ …» (الكهف 13) إلى أخره..

فالحقّ هاهنا يتجلّى في رمزية القصّة، وليس في تفاصيلها، وتاريخها غير المعروف،

لأنّ ما هو مُهمّ هو الاعتقاد بوجود حياة أخرى بعد الموت، وبوحدانية الله وعدم الإشراك به وعدم القول (إنّ لله ولدًا)

هناك نقطة أخيرة أريد إضافتها في ظلّ نُكران بعض المُفكّرين لتأثير القُرآن بمحيطه التاريخي

نجد فقهاء الإسلام الأوائل انتبهوا للمصادر السريانية، واطّلعوا عليها ونهلوا منها ما استطاعوا أخذه من تفاصيل المهمّة في تعليقاتهم على قصّة أصحاب الكهف

كما هو الحال في كتاب (المبتدأ) لابن إسحاق، ونحن نعرف هذا ابن إسحاق في عصر أبو جعفر المنصور، وكذلك (تاريخ الطبري وتفسيره)

ومن هذين المرجعين نُقل الكثير عن أصحاب الكهف، ورغم هذه المُعطيات لازال بعض المُفكّرين يُنكرون هذه التأثير

بل وبالعكس، يدّعون أنّ السريان هُم من أخذوا هذه القصة عن القُرآن والمُسلمين

أترك لكُم الحُكم، وإلى اللقاء في الحلقة القادمة فكونوا معنا!


Download text file

Early History of Islam 095

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً