التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 97 | أصل قصة هز النخلة في القرآن

أهلًا بالجمهور الكريم!

كنا قد توقّفنا في الحلقة القادمة عند بحث لحلّ مُعضلة احتماليّة خلط أسماء بعض الشخصيات الكتابية في القُرآن

كاسم مريم أم المسيح ومريم بنت عمرام أخت موسى وهارون

ورأينا مُحاولة الأستاذ Guillaume Dye قلب أو استبدال أسماء من يواقيم بين قوسين (والد السيدة مريم أم المسيح) إلى عمران وهو في الأصل العبري عمرام أبو موسى وهارون ومريم

ثم أُبدل هارون بيحي بن زكريا أي يوحنا المعمدان، ثمّ موسى بالمسيح عيسى بن مريم، وأخيرًا مريم أخت موسى وهارون بمريم أم المسيح

هذا الطرح كما قُلت في الحلقة الماضية لا يقف حسب مجموعة من الباحثين على أرضية صلبة

أمّا فيما يخُصّ التأثير السرياني على النصّ القُرآني، فقد قدّم لنا الأنثروبولوجي الألماني Joseph Henninger حلًا مُناسبًا يُفيد أنّ بعض آباء الكنائس السريانية كانوا يُقدّمون في وعظاتهم مُقارنات بين المريمتين

وعلى رأسهم الراهب السرياني أفرهات، في بداية القرن الرابع الميلادي،

والأسقف Gergory of Nyssa  في نهاية هذا القرن يعني القرن الرابع الميلادي

وهذه المُقارنة لإثبات مسألة نبوات العهد القديم حول المسيّا، التي تكتمل في شخصية المسيح يسوع بحسب الفكر المسيحيّ

فكما هو معلوم، فالسيّدة مريم أم المسيح قدّيسة بحسب هذه العقيدة أي العقيدة المسيحيّة، وكذلك الإسلامية.

لعبت دورًا أساسيًا في خدمة وتربية السيد المسيح، كما لعبت مريم أخت موسى دورًا لا يقلّ أهميّة في حياة موسى وخروج شعب بني إسرائيل من مصر إلى أرض الموعد

لكن كلّ هذا لا يوفي بإزالة هذا الخلط، أقرب الأطروحات لحل هذه الإشكالية حسب رأيي

هي التي قُدّمت في قضية هويّة مريم أم المسيح عند الأستاذ الجامعي “سليمان مراد”

في مقال له بعنوان (مريم في القُرآن إعادة تقديمها)، فقد وفّق بين الجدليّة الإسلاميّة التي وصلت ذروتها في القرون الوسطى

والكتب الرسمية كإنجيل لوقا، وشبه رسمية ككتاب Diatessaron، وكتب منحولة ككتب الأبوكريفا،

فلتحديد هوية أو هُوية مريم أم المسيح، قدّم لنا الأستاذ سليمان أولًا: إطلالة على الموروث الإسلامي في هذا الموضوع

مُعتمدًا على آيات الرئيسيّة وهي آل عمران: 35 – 36 «إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (آل عمران: 35 – 36)

مريم: 28 «يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» (مريم: 28)

التحريم: 12 «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ» (التحريم: 12)

ثمّ قدّم لنا تفسيرات أو تفسير الطبري، ومعرفة فقهاء الإسلام بشجرة نسب مريم أم المسيح، ويوسف النجّار بحسب الأناجيل الرسميّة

ومن أهمّ النقط التي تطرّق لها الأستاذ سليمان مسألة بنوّة، فعندما يقول النصّ القُرآني في سورة مريم الآية 28 «يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» (مريم: 28)

ليس معناها أخته مباشرة فلفظ ابن أو ابنة في المصادر المسيحيّة القانونية لا يعني دائمًا الطفل مُباشرة

ففي إنجيل متّى الإصحاح الأوّل العدد الأوّل على سبل المثال يقول: «كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ:» (متى 1: 1)

فالمسيح ليس ابن داود مُباشرة، أو داود ليس ابن إبراهيم مُباشرة، بل معناه من نسله

وكذلك القُرآن عندما يُخاطب اليهود بعبارة بني إسرائيل في عدّة آيات

وهناك مُلاحظة أخرى في القُرآن عندما يقول في سورة الأعراف الآية 73 «وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا…» (الأعراف: 73)

وهنا إشارة إلى قرابة العشيرة، وليس الأخوة مُباشرة. وهذا فيما يُناهز 28 آية،

 وكذلك إلى الرابط الديني كما جاء في سورة آل عمران الآية 103 «…فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا…» (آل عمران: 103)

كذلك إشارة لعلاقة السلف كما جاء في الأعراف الآية 38 «… كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا…» (الأعراف: 38)

وعالج الأستاذ سليمان هويّة مريم أم المسيح من خلال النصّ القُرآني كلّه، ولم يعتمد على آية أو بعض الآيات

وإنّما تحدّث عن البشارة وولادة يسوع المسيح بين قوسين (عيسى بن مريم) في القرآن من آل عمران 45 – 49

المُستمدّة من إنجيل يعقوب التمهيدي وهو من الكُتب الأبوكريفا،

كما سبق وأن أشرنا في الحلقة الماضية،

وفي بداية سورة مريم جاءت البشارة بيوحنا لزكريا تمامًا كما جاءت في بداية إنجيل لوقا

ثم يعقبها البشارة بولادة المسيح في سورة مريم الآية 16 إلى الآية 21 «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا»

موازية لمقطع في إنجيل لوقا الإصحاح الأوّل العدد 26 إلى 37 وهي موازية كذلك لما جاء في الإنجيل الرباعي Diatessaron لتيتانوس في سنة 170 ميلادية

ثم قصة النخلة في سورة مريم الآيات 22 إلى 26 «فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا.  فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا.  فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا.  وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.  فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا» (مريم: 22 -26)

الموجودة في إنجيل منحول لمتّى، وهي تختلف في بعض التفاصيل

ففي القُرآن هزّ النخلة كان عند فترة المخاض، لكن في إنجيل متّى المنحول فكان عند هروب عائلة مريم إلى مصر حيث كان المسيح قد ولد

وهذا الاختلاف ناتج عن قصة أخرى من الميثولوجيا الإغريقية عند مخاض ولادة الإله أبولو من الإلهة ليتو

في مكان منعزل بجبل ديلوس تحت نخلة على منبع ضفاف نهر إينوبوس

عندما هربت خوفًا من الإلهة هيرا زوجة الإله زيوس، لأنّ الإلهة ليتو حملت منه

حيث كانت هذه الخُرافة ذائعة الصيت في العالم اليوناني والروماني تكرّرت في الأدب الكلاسيكي

وبذلك تكون قصة ليتو وولادة أبولو تشهد على وجود خرافة هزّ النخلة الميتة تزوّد مريم بالماء والتمر

عند ولادة المسيح كمُعجزة من جماعة نجران المسيحية في غرب شبه الجزيرة العربية

التي كانت تعبُد شجرة النخيل قبل اهتدائها إلى المسيحيّة، وذلك بحسب ابن إسحاق والطبري

يُضيف الأستاذ سليمان بالقول: إذا كان هذا هو الحال، فتكييف أسطورة ليتو لتُلائم مريم هيئ لهم الاحتفاظ بجُزء من معتقدهم السابق تحت قناع مسيحيّ

ثم ينتقل إلى مسألة هروب مريم ويسوع كما جاء في إنجيل متّى الإصحاح الأوّل العدد 13 إلى 18

ويُقارنه بالآية 50 من سورة المؤمنون «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ» (المؤمنون: 50)

فالآية لا تُحدّد موقع الربوة، وهناك قلّة من فُقهاء الإسلام من ربطوا موقع الربوة بهروب عائلة مريم لأرض مصر كالطبري والمقريزي

لكنّ الأغلبية جعلوا موقع الربوة في بلاد الشام

وقد رأينا في إحدى الحلقات لهذا البرنامج، بحسب علم الفيلولوجيا

أنّ أستاذي الدكتور “كرستوفر لوكسمبرج” ربط موقع الربوة بالجنّة وصعود جُثمان السيدة مريم للفردوس مع ابنها يسوع المسيح

إذاً، كلّ من لوكسمبرج والأستاذ سليمان يرى فريته منطقيّة بحسب اختصاصه

وفي خاتمة المقال الأستاذ سُليمان مراد قدّم لنا خلفية قصة مريم أم المسيح في القُرآن بأنّها بنت عمران وأخت هارون قُصدَ به إبراز إرثها التوراتي

التي أُخذت من مصادر مختلفة كإنجيل لوقا، والإنجيل الرباعي Diatessaron

وكتب منحولة كإنجيل يعقوب التمهيدي، وإنجيل متّى المنحول

وبذلك يكون النصّ القُرآني في قصة مريم أم المسيح يعكس البيئة التي ظهر فيها النصّ القُرآني

وهو يُخاطب جماعة مسيحيّة تستخدم هذه الكتب المذكورة إلى زمن ظهور القُرآن

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في حلقة مُقبلة!


Download text file

Early History of Islam 097

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
19 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
14 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً