التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 99 | هل تلقى الرسول تعليمه على يد أعاجم؟

أعزائي المُشاهدين، أهلًا وسهلًا بكم في حلقة جديدة من برنامج (التاريخ المُبكّر للإسلام)

تحدّثنا في الحلقة السابقة عن تتمّة موضوع خلط اسم مريم أم المسيح ومريم وأخت موسى وهارون

وكنّا خرجنا بنتيجة مفادُها: أنّ الإشارة إلى عمران وهارون يجب أن تُحمل على المجاز

لتبرير وجود المُحاكمة للسيدة مريم من قِبل رجال الدين اليهود وتعزيز قوّة مُعجزة الحمل الرباني دون زرع بشري، أو حتى مُجرّد إمكانية الاشتباه فيه

وهذا الطرح قد يكون مُستوحاة كما قُلنا من الموروث العربي النصرانيّ الذي كان موجودًا في عصر محمّد دون وجود أي دليل عليه حتى الآن

أو هي مجرّد نظريّة لاهوتية لولادة المسيح العجائبية من صاحب القُرآن

في هذه الحلقة نبدأ في طرح نوع أخر من النصوص التي تُظهر وجود تأثير مُباشر أجنبي اللّغة على مصادر القُرآن

أو بمعنى أخر، كيف وصلت قصص الأنبياء وقصص الوعظ من الموروث أو الموروثات السابقة، وعلى رأسها الموروث السرياني الآرامي المسيحي والنصراني؟

من خلال شواهد في النصّ القُرآني يتّضح للباحث وجود علاقة لمصادر هذا الموروث في اتهام أعداء محمّد وخُصومه ومن لا يؤمن برسالته من أبناء جلدته

فعلى سبيل المثال جاء في سورة النحل الآية 103 اتهام خطير لمحمّد بأنّه تلقّى تعليمًا مُباشرة من شخصيّات أجنبيّة غير عربية لها ثقافة جيدة فيما يطرح من قصص ومناقشات لاهوتيّة

تقول الآية: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» (النحل: 103)

من خلال هذه الشهادة من قبل خُصوم محمّد، طبعًا المطعون فيها من المُسلمين بحجّة أنّ كلّ ما جاء في القُرآن هو كلام الله المُنزّل على نبيه محمّد

فهل افترى هؤلاء الخصوم الكذب على الرسول أم لهذا الاتهام أصل من الصحة كحجّة صافعة للردّ على دعوته

أقدم المُفسّرين للقُرآن كالشيخ “مقاتل بن سليمان”، المتوفى سنة 150 للهجرة يذكُر سبب نزول هذه الآية أو تفسيرًا لها حيث قال:

“وذلك أنّ غُلامًا لعامر بن الحضرمي القرشي يهوديًا أعجميًا، كان يتكلّم بالرومية يُسمّى “يسار” ويُكنّى (أبا فكيهة)، كان كفّار مكّة إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يُحدّثه، قالوا: إنّما يُعلّمه يسار أبو فكيهة”

إذًا صحّت هذه الرواية عن مُقاتل بن سليمان، فهذا اعتراف ضمني بوجود شخصيات أجنبية أمثال يسار أبو فكيهة يتحدّثون مع الرسول في أمور يعرفونها جيدًا في ثقافتهم التي تربوا فيها

كما يُقدّم لنا الطبري بعض الأسماء التي اتهم الرسول الأخذ عنها كشخص نصراني اسمه بلعام، كان الرسول يزوره في بيته بعيدًا عن أنظار خصومه.

وعن عكرمة شخص أخر هو غُلام لبني المغيرة أعجمي يُقال له “يعيش” أو قال إن اسمه جبر، وشخصيات فارسيّة كسليمان الفارسي،

إذًا من خلال هذه الروايات نستطيع القول بوجود أربع شخصيات أعجميّة على الأقل وهم: (يسار أبو فكيهة الرومي، وبلعام النصراني، ويعيش أو جبر غلام بني المغيرة، وأخيرًا سلمان الفارسي)

ويقال: إنه أي سلمان الفارسي زرادشتي ارتدّ عن دين آبائه وتنصّر، ثمّ ارتدّ عن النصرانية واعتنق الإسلام في المدينة

فكان هذا الرجل صاحب معرفة واسعة في أديان الشرق أوسطية،

كل هؤلاء الأربعة، ثلاثة في مكّة، وواحد في المدينة، كانت لغته أعجمية، يتحدّثون عربية كسورة بحُكم وجوده كعبيد عن العرب

في وقتنا الحاضر نجد عُمّالًا في الخليج من الهنود والبنجلادش والفليبينيين

يتحدّثون بلُغة عربية مكسورة، تمامًا كما كان هؤلاء العبيد الأعجم يتحدّثون في مُجتمع الرسول

فالآية لا تنفي مُقابلته، لهؤلاء العبيد، وإنّما توضّح أنّ القُرآن بلسان عربي مبين

بمعنى كلام عربي واضح، ونقي وليس به غموض كما يمكن أن يصدُر عن أعجمي مبتدأ

وهناك تأكيد أخر على هذا الاتهام، في سورة الفرقان الآية 4 «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ…» إلى أخره.. (الفرقان: 4)

والسؤال المطروح: كيف عرف خُصوم محمّد أنّه يتلقّى معلوماته الدينيّة من هؤلاء الأعجام؟

الجواب يكمُن في الآية التي بعدها «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (الفرقان: 5)

إذًا، ما يُقدّمه الرسول محمّد من آيات قُرآنيّة برهانًا على رسالته، فهي بالنسبة لخصومه مُجرّد أساطير الأولين، يعرفونها جيدًا، تُملى عليه حسب اتهامهم كلّ حين.

وقد تكرّرت هذه الشهادات عدّة مرات في القُرآن، كالآية 25 من سورة الأنعام والنحل: 24 والمؤمنون: 83 والنمل:68، والأحقاف: 17. وغيرها من الآيات..

وفي سورة لأنفال هناك تبخيس واضح من خُصوم محمّد على أنّ ما يُقدّمه يستطيعون الإتيان به، وما هي إلّا أساطير الأولين كما جاء في الآية 31 « وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (الأنفال: 31)

إذًا ما يُقدّمه النصّ القُرآني من حجج على رسالة محمّد معروفة عند خصومه ويستطيعون تقديم مثلها لو أرادوا

ويختم مُقاتل بن سليمان تلخيص الموضوع في حديث أحد كبار خُصوم محمّد، وهو النضر بن الحارث حيث قال:

“ما هذا القُرآن إلّا كذبٌ اختلقه محمّد وأعانه عليه قوم آخرون، عدّاس مولى حويطب بن عبد العُزي، ويسار غُلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر بن الحضرمي كان يهوديًا فأسلم… (ثم يُتابع قوله) هذا القُرآن حديث الأولين، أحاديث “رستم واستنفد باز” هؤلاء النفر الثلاثة يعلمون مُحمّدًا طرفي النهار بالغداة والعشي؟

هذه التهم خطيرة، نقلها عُلماء الإسلام والرواة من قبلهم، فإذا صحّت هذه الروايات يمكن القول: ليس من المُستطاع استبعاد إمكانية تأثير مثل هؤلاء الأجانب على الحوار اللاهوتي في القُرآن وتنوّعه

وهذا ما توصّل إليه الأستاذ Guillaume Dye في مقاله بعنوان (إعادة النظر في موضوع تأليف القُرآن. هل القُرآن جزئيًا نتيجة عمل مُتتابع وجماعي)

ونحن نتساءل كيف لمُجتمع وثني يستطيع تقديم مثل قصص القُرآن عن الأنبياء والرسل والمُجادلات اللاهوتيّة المسيحيّة اليهوديّة

إلا إذا كان مُجتمعًا يعرف نوعًا من التوحيد وقصص الأنبياء ليست غريبة عنه

نُكمل الموضوع بعد الحلقة القادمة التي توافق الحلقة المئة،

نُقّدم من خلالها تفاعلاتكم وتشجيعاتكم، وتوضيح بعض الأمور التي جاءت أسئلة كثيرة بخصوصها

فكونوا معنًا وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 099

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
19 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
14 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً