التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 48 | بين المتحرك والثابت في القرآن

أهلًا بكم!

في الحلقة الماضية طرحنا أسئلة بخُصوص نظرية المصادر، وتطبيقها على القُرآن

والسؤال الأوّل: هل حصل تغيير أو تبديل لآيات قرآنية في عهد محّمد والصحابة؟

وقُلنا: الجواب نجده بصراحة في سورة النّحل «وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (النحل:  الآية 101)

وقُلنا: أي الآية أنّها مكيّة تتمنى لفترة الضّعف والاضطهاد، وفي العصر المدني، عصر الحُكم والتّمكُّن، نجد هناك إشارة لهذا التغيير في سورة البقرة

«مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (البقرة: الآية 106)

والنّسخ كما قُلنا: ليس فقط معناه التغيير والتبديل، بل كذلك التدوين تدوين النُّساخ وهي بداية حقيقية لتدوين القُرآن

فالآيات التي تقول: لا تبديل لكلمة الله في سورة يونس والأنعام والكهف،

«لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (يونس: 64)

«وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ» (الانعام: 34)

«وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا» (الكهف: 7)

ليس بمعنى كلمات آيات القُرآن، وإنّما بمعنى وعد الله لخلقه، كدخول الأبرار للجنّة والأشرار للنار

وكذلك بمعنى سنّة الخلق كما جاء في سورة الروم «…لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ…» (الروم: الآية 30)

وفي سورة الفتح «…وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (الفتح: 23)

لكنّ الآيات يمكن تبديلها، وإلّا يكون هناك تناقُض بين الراسخ والمُتحرّك،

الآيات التي يمكن تبديلها، أي الآيات المُتحركة هي التي تولد من البيئة التي تُحيط بصاحب النصّ،

 بمعنى القصص والأمثلة من الواقع الذي يعيشه المُبشّر والنّذير كمحمّد

تؤدي رسالة الوعظ والإرشاد، كقصّة أهل الكهف فتية أفسس، الموجودة بقوّة في الثقافة السريانية قبل الإسلام كما قُلنا

ثم الآيات الراسخة التي تتحدّث عن الخلق ووعد الله وكلّها موجودة من أم الكتاب، أي الكتب المُقدّسة السابقة

ولهذا جاء في سورة آل عمران، إشارة للآيات الرّاسخة والمُتحرّكة

في قوله «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ…» (آل عمران: الآية 7)

والإنزال ليس بمعنى النزول من فوق إلى تحت، وإنّما التسخير كالميزان على سبيل المثال والحديد

تقول الآية: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ …» (الحديد: الآية 25)

فالآيات المُتحرّكة يعترف بها خُصوم محمّد من يهود ونصارى وغيرهم كالوثنيين يقولون عنها «… أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا»  سورة (الفرقان: الآية 5)

من أين لمُحمّد بهذه القصص؟

إن لم تكن حسب رأيهم تُملى عليه بُكرة وأصيلًا، فهذا اتهام خطير من قومه بتلقّي آيات تُملى عليه من قوم آخرين

تقول الآية التي قبلها: «… أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ…» (الفرقان: 4)

وهي إشارة لمصادر القُرآن وآياته القابلة للتغيير والتبديل بحسب المُستجدات

كما رأينا في سورة النحل الآية 101 ، فبعد تبديل وتغيير الآيات من قبل صاحب النصّ نفسه أو القوم الآخرين الذين يقولون «…وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ…» (النحل: 101) في نفس الآية

فهل نكر محمّد التلقين والتعليم من قوم آخرين؟

الجواب: لا.

حيث جاء في الآية 103 «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ» (النحل: 103)

ونعلم، هنا تعود على صاحب النصّ الذي قال في الآية السابقة، «…وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ…» (النحل: 101)

فالاعتراف صريح حيث يقول: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ» (النحل: 103)

لكن الميزة في هذا القُرآن أنّه بلسان عربي مبين، أي واضح ومفهوم للعرب، لا يحتاج لترجمة من لُغة أجنبية،

طيب، هل هناك نصّ أو آية بلُغة أعجمية نقلها القُرآن كآية مُتحركة؟

وهنا الدخول مُباشرة في صُلب نظرية المصادر، حيث جاء في الأناجيل الثانية (متى مرقس ولوقا) عن مثل الغني

«وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». (متى 19: 24)

«لأَنَّ دُخُولَ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». (لوقا 18: 25)

«مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ» (مرقس 10: 25)

فالآية باللغة اليونانية، تعني

εὐκοπώτερον γάρ ἐστιν κάμηλον διὰ τρήματος βελόνης εἰσελθεῖν ἢ πλούσιον εἰς τὴν βασιλείαν τοῦ Θεοῦ εἰσελθεῖν.

صعوبة أن يلج عين الإبرة من أن يدخل الغني ملكوت الله

جاءت في سورة الأعراف، «…وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ…» (الأعرف: الآية 40)

ففي الإنجيل الرباعي Diatessaron الإصحاح 29، «…سهل على الجمل أن يلج سم الخياط من أن يدخُل الغني ملكوت الله…»

وفي مخطوطة الفاتيكان ar 13,f,32 r «لدخول الجمول في سم الخياط أيسر من دخول الغني ملكوت الله»

هناك من سوف يعترض ويقول: يا أستاذ، هذا مثل يُمكن استعارته في النصّ،

والحديث أصلًا عن الغني وليس على المُجرمين كما جاء في الآية القُرآنيّة

نعم، يُمكن الاستعارة كمثال للتعبير، لكن أن تجد تعبيرًا حرفيًا في القُرآن يتفرّد به إنجيل يوحنا بالمُقارنة مع أي كتاب أو بشارة أو نصّ أدبي

فهذا ممّا لا شكّ أنّه اقتبسه من هذا الإنجيل حيث جاء 23 مرة عبارة في يوحنا مثلًا في يوحنا 3: 3 «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ…» (يوحنا 3: 3)

تجدها في سورة ص الآية 84 «قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ…» (ص: 84) اقتباس حرفي

نُقدّم مثلًا أخر من قصّة لوط من التوراة سفر التكوين، ونُلاحظ التغييرات أو الاختلافات في الإصحاح 19،

تجد في القُرآن مقطعين يتحدّث عن لوط في آيات من سورتي الأعراف من الآية 80 إلى الآية 84 والنمل من 54 إلى 58

تقول الآية: «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ» (النمل: الآية 54)

يُقابله  «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ» (الأعراف: الآية 80)

ثم الآية 81 «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ» (الأعراف: 81)

يقابلها الآية 55 «أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» (النمل: 55)

الآية 82 «وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» (الأعراف: 82)

يقابلها 56 «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» (النمل: 56)

ثم 83 « فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ» (الأعراف: 33)

يقابلها 57 وليس 54 «فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ» (النمل: 57)

وأخيرًا 84 «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» (الأعراف: 84)

يقابلها 58 «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ» (النمل: 58)

قارنوا بين هذين الآيات لترى بنفسك الفرق، ثم نُكمل الحديث فالحلقة القادمة، وإلى اللقاء.


Download text file

Early History of Islam 048

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 6 | خطأ الدكتورة أسماء هلالي في قراءة نص طرس صنعاء
أهلًا بكم أحبائي الكرام! في عُجالة نذكّركم بالحلقة الماضية، بدأنا [...]
112 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 5 | مع محمد المسيّح
أهلًا بالجمهور الكريم الحلقة الماضية ذكرنا نقطتين مهماتين وهي أولًا [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 4 | مع محمد المسيّح
1- أهلا بكم مشاهدينا الكرام في الحلقة الماضية توصلنا لنقطة مهمة جدا 2- [...]
13 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 3 | مع محمد المسيّح
أهلًا بالجمهور الكريم في الحلقة الماضية إتحدثنا على المعايير العلمية [...]
10 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 2 | مع محمد المسيّح
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 2 | مع محمد المسيّح أهلًا بالجمهور [...]
23 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 1 | مع محمد المسيّح
  الحلقة الأولى من برنامج التاريخ المبكر للإسلام أهلًا بيكم [...]
36 views

Page 13 of 13

اترك تعليقاً