التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 84 | ما هو الذكر وصحف إبراهيم وموسى؟

مساء الخير أو صباح الورد!

في الحلقات الماضية قدّمت لكُم سلسلة من الأخطاء النسخيّة في القُرآن،

منها ما أشارت له مراجع إسلاميّة مهمّة، ومنها ما كشفته مادة علم الفيلولوجيا

في هذه الحلقة نتطرّق لأسئلة المُشاهدين ونختار رسالة وصلتني من الأستاذ “إحسان عبد ربه” تحية له من هذا المنبر.

يقول الأستاذ “عبد ربه”: أخي وأستاذي العزيز بعد التحية الأخوية، وتكملة في حلقاتك حول أخطاء النّسّاخ الأوائل في كتابة وتدوين النصّ القُرآني، أطلب رأيك حول ما توفّر لديك من معلومات عن معنى كلمة الذكر، وما رافقها من تناولتها في إحدى حلقات برنامجك الموفّق (التاريخ المبكر للإسلام)

حيث ذكرت أنّ كلمة الذكر تنصرف إلى التوراة إلى الآية 105 من سورة الأنبياء «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» (الأنبياء: 105)

فواضح وجلّي بأنّ التوراة هي الكتاب الذي سبق الزّبور، ولقد تفضلّت أخي الكريم بالقول بأنّ مخطوطات صنعاء ورد فيها أيضًا بالآية 6 من سورة الحجر «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» (الحجر: 6)

وبناء على ما سبق استفسر عن معنى كلمة الذّكر في الآية التالية من سورة الفُرقان «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ ۚ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا. وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا» (الفرقان: 25 -30) إلى أخره.

لقد وردت في هذه السورة تبعًا الكلمتين معًا (الذّكر والقُرآن) فما تفسيرك لكلمة الذكر في  هذا السياق لتعميم الفائدة لكافة المُهتمّين،

مع خالص الشكر والامتنان أخي وأستاذي الذي نكِنّ له كلّ الحُب والاحترام والتقدير، ونُمني النفس في لقاء قريب، نُجدّد فيه التواصل الأخوي والمعرفي معًا.

شكرًا للأستاذ “عبد ربّه” على هذه الرسالة التي تحمل في طيّاتها معالم الرقيّ والتفكير والتدبير، رغم وجود اختلاف في الرأي بيني وبينه في عدّة أمور تتعلّق بالدين،

فهو رجل مُسلم مؤمن بعقيدته ولو غيرة على هذا الدين، مع ذلك فالاختلاف لا يُفسد للودّ قضيّة

فالآية 29 من سورة الفرقان تُشير بوضوح إلى وجود الذّكر والقُرآن مع بعض،

وفي أوّل سورة، سورة ص نجد في أوّل آية من سورة ص نجد هذا القُرآن ميزته أنّه ذي الذّكر «ص ۚ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» (ص: 1)

أي أنّ الذّكر يُشكّل الأساس والأرضية للقُرآن، ولهذا جاء في سورة النجل الآية: 43 «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (النحل: 43)

وأهل الذّكر هم أهل الكتاب، فهذا الذّكر يشتمل على الكُتب المُقدّسة السابقة.

كالتوراة والإنجيل كما جاء في سورة المائدة «وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ» الآية (المائدة: 46)

والقُرآن لا يلغي ولا ينسخ الكُتب السابقة كما تُفيد الآية التي بعدها «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (المائدة: 47)

فهي الدّعوة صريحة لأهل الإنجيل بتطبيق حكمه، وإلّا فهُم الفاسقون.

نعود الآن للآية التي تحدّث عنها الأستاذ إحسان عبد ربه

في سورة الأنبياء: 105 «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» الأنبياء: 105)

الزّبور كما قُلنا: هو كتاب النبيّ داود بين قوسين (المزامير) وبموجب هذه الآية فسّر مُعظم عُلماء الإسلام الذّكر بالتوراة

والتوراة هي كتب موسى الخمس، (تكوين – الخروج – اللّاويين – العدد – التثنية)

ولا ننسى وجود أسفار قديمة أخرى ضمن الذّكر، قبل التوراة وهي صُحف إبراهيم كما جاء في سورة الأعلى الآية 19 «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ» (الأعلى: 19)

وهذه الصحف لا يعلم عنها فُقهاء الإسلام إلًا الشيء القليل وبالكاد يمرّون عليها مرور الكرام

رغم وجود إشارات عديدة في القُرآن تتحدّث عنها، وذلك في سورة البقرة الآية 136 «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ …» (البقرة: 136)

تكاد تتطابق مع الآية: 84 من سورة آل عمران «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (آل عمران: 84) التي تبدأ بقل بدلًا من قولوا

وفي سورة النجم الآية  36 -37  «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ» (النجم: 36 -37)

وسورة الأعلى 18 – 19 «إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ» (الأعلى: 18 -19)

كذلك جاءت الإشارة إلى الصُحف الأولى في سورة طه الآية 133 «…أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ» (طه: 133)

والسؤال المطروح: هل هناك صُحف معروفة لإبراهيم الخليل؟

بحسب العقيدة اليهوديّة والمسيحيّة لا توجد صُحف لإبراهيم أبو الأنبياء،

 وهذا ما جعل بعض الباحثين يُفكّرون، أو ينظرون إلى ما يرمُز إليه القُرآن عندما يتحدّث عن الصُحف الأولى خاصّة صحف إبراهيم

ومن بين هؤلاء نجد الأستاذة Genevie Gobillot  من جامعة (جون ليونThe Université de Lyon) تقول: إنّ هذه الصُحف إشارة إلى عهد أو وصيّة إبراهيم “Testament d’Abraham”

وهو نص يعود لكتاب الأبوكريفا أي هو نص منحول للعهد القديم من الأدبي القيامي، بمعنى الأخبار عن يوم القيامة Apocalypse

ومن المُرجّح أنهّ كتب في القرن الأوّل أو الثاني الميلادي ونُسب إلى “عزرا” الكاتب أي أحد أنبياء بني إسرائيل

ويتحدّث عن قُرب موت إبراهيم الخليل والله يُحاول أن يمنحه فرصةً لكتابة وصية لأبنائه وخُدّامه بعد عُروجه للسماء ليرى أهوال يوم القيامة

لكن إبراهيم الخليل رفض بعناد كتابة وصيّة قبل موته، لينتهي الأمر بلا وصية،

وهذا النصّ مُقدّس عند جماعة من اليهود الإثيوبيا وهم بيتا إسرائيل،

وعن صحف موسى تقول الأستاذة ” Genevie Gobillot ” هو إشارة إلى سفر اليوبيلات ספר היובלים  ويُسمّى كذلك بسفر التكوين الصغير وهو كتاب منحول بحسب مُعظم الكنائس التقليدية ماعدا الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية

كذلك سفر أخنوخ أو نُسخة أخنوخ الإثيوبيّة، يُعتبر أيضًا من صحف موسى وهو من الأسفار غير القانونية مُعترف به عن الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية فقط

ويُنسب خطأً إلى أخنوخ في سفر التكوين الإصحاح 5 من العدد 18 إلى العدد 24  «وَعَاشَ يَارَدُ مِئَةً وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَوَلَدَ أَخْنُوخَ. وَعَاشَ يَارَدُ بَعْدَ مَا وَلَدَ أَخْنُوخَ ثَمَانِيَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ يَارَدَ تِسْعَ مِئَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ. وَعَاشَ أَخْنُوخُ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَوَلَدَ مَتُوشَالَحَ. وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ بَعْدَ مَا وَلَدَ مَتُوشَالَحَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ أَخْنُوخَ ثَلاَثَ مِئَةٍ وَخَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً. وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ.» (تكوين 5: 18 -24)

وإذا كانت هذه الفرضيّة صحيحة، فيمكن القول: إنّ القرآن يعترف بكتب أبوكريفا عند يهود ومسيحيين الحبشة

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللّقاء في الحلقة المُقبلة!


Download text file

Early History of Islam 084

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 6 | خطأ الدكتورة أسماء هلالي في قراءة نص طرس صنعاء
أهلًا بكم أحبائي الكرام! في عُجالة نذكّركم بالحلقة الماضية، بدأنا [...]
112 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 5 | مع محمد المسيّح
أهلًا بالجمهور الكريم الحلقة الماضية ذكرنا نقطتين مهماتين وهي أولًا [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 4 | مع محمد المسيّح
1- أهلا بكم مشاهدينا الكرام في الحلقة الماضية توصلنا لنقطة مهمة جدا 2- [...]
13 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 3 | مع محمد المسيّح
أهلًا بالجمهور الكريم في الحلقة الماضية إتحدثنا على المعايير العلمية [...]
10 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 2 | مع محمد المسيّح
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 2 | مع محمد المسيّح أهلًا بالجمهور [...]
23 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 1 | مع محمد المسيّح
  الحلقة الأولى من برنامج التاريخ المبكر للإسلام أهلًا بيكم [...]
36 views

Page 13 of 13

اترك تعليقاً