التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 108 | جغرافية مكة بين التاريخ والأسطورة

أهلًا بالمُتابعين الأحبّاء!

سبق وقدّمت العديد من اللقاءات والحلقات على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التليفزيونية حول تاريخية مكّة

وقدّمت النظريات والدراسات وأشرت لنظرية Dan Gibson ودراسة Patricia Crone

ومن خلال تقديمتي لهذه الفرضيات والنظريات والدراسات، بعض المُشاهدين الكرام اختلط عليهم الأمر واعتقدوا أنّني أؤيد نظريّة دان جبسون التي تقول: بأنّ مكّة قبل الإسلام كانت بالتحديد في مدينة البتراء

ومكّة الحالية بنيت في عصر “عبد الله بن الزبير” الذي نقل الحجر الأسود من البتراء إلى مكّة بأرض الحجاز

بالنسبة للفرضية التي أؤيّدها ليست لدان جبسون، وإنما قلت مرارًا وتكرارًا منطقة أرابيا بتريا

وهذا فرق كبير بين البتراء كمدينة، وبين منطقة أرابيا بتريا كمساحة شاسعة حكمها الأنباط قبل القرن الثاني الميلادي

فهي تضُمّ صحراء سيناء وفلسطين والأردن وشمال السعودية منطقة العُلا، كلّ هذه الرقعة الجُغرافية الكبيرة توافق جغرافية النصّ القرُآني

وهي المنطقة التي عاش فيها النبي محمّد وأتباعه، مُتنقلًا بين أطرافها حسب الظروف السياسيّة والدينيّة لتلك المنطقة

أتمنى أن أكون قد وضّحت هذا اللّبس!

نعم سبق وقُلت: إن الملكة زنوبيا أرسلت الحجر الأسود βαίτυλος

عند اقتراب سقوط مملكتها في سبعينيات القرن الثالث الميلادي، خوفًا من استيلاء الروم على هذا الحجر المُقدّس

فنقلته من دينة تدمُر إلى البتراء، كأحد الاحتمالات القومية وبالذات لمعبد الأسود الطائرة

كلّ الاعتراضات والإنكار والرفض لهذه النظريات مبنيّة على نقطتين، الأولى عقائديّة

فالرسول محمّد بحسب الدوجمة الإسلاميّة، ولد وعاش نصف قرن من حياة في مكّة الحالة

وكلّ التُراث والأخبار والسير مبنيّة على هذا الاعتقاد، فكيف يُمكن إنكار هذا الموروث العظيم أمام فرضيات لا قيمة لها، أمام هذا التاريخ المتواتر خلال قرون وأجيال عديدة يسأل المُسلم.

النقطة الثانية: تاريخية مبنيّة على اختلاف المذاهب والفروق الإسلاميّة التي خاضت حروبًا طاحنة بينها وبين بعض، واختلفت في كلّ شيء تقريبًا عدا مسألة جغرافية مكّة

النقطة الأولى من الناحية العقائدية فالقُرآن هو الكتاب المُقدّس والرئيسي في العقيدة الإسلامية

يطلُب من كلّ أتباعه أن يحفظوا وصاياه وأوامره ونواهيه، باعتباره الكتاب الإلهي المُنزّل من السماء على رسوله محمّد بن عبد الله

ومن بين الوصايا الأمر بتدوين وتوثيق دين بسيط بين شخصين بحُضور شاهدين عدلين على الأقلّ

وذلك في سورة البقرة الآية 282 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…» إلى أخره (البقرة: 282)

فكيف لا يُكتب تاريخ مجيد وعظيم لنشأة أخر صيحة في الديانات السماويّة إلّا بعد قرنين من الزمن تقريبًا؟

أقدم تدوين وكتابة لهذا التاريخ الإسلاميّ وصلنا في بداية العصر العبّاسي، ولم تكن بداية تدوينية من باب العلم بهذا التاريخ وتوثيقه،

فقط كتب من أجل تعليم سموّ الأمير ولي عهد الخليفة أبو جعفر المنصور العبّاسي

ومن هنا انطلقت الأقلام وسالت جداويل من المداد لكتابة هذا الموروث العظيم

النقطة الثانية: ليس صحيح أنّ كلّ الفرق والمذاهب أجمعت على قُدسية الحرم المكيّ باعتباره مهد الديانة الإسلاميّة

فعبد الملك بن مروان أمر بهدم الحرم المكي بالمنجنيق على رأس عبد الله بن الزبير أثناء حملة الحجّاج بن الثقفي العسكريّة، لإخماد ثورة عبد الله

في حين كانت كعبة الصخرة في القُدس قد انتهى عبد الملك من بنائها،

أقول كعبة لأن المكعّب شيء مدور ككعب الرجل، وكواعب أترابًا

وبعد هذه الحادثة بقرنين يتعرّض الحرم المكي وأقول حرم وليس كعبة، لاعتداء شنيع من طرف فرقة إسماعيلية مُسلمة وهي فرقة القرامطة

قتلوا الحجيج أيام التشريق سنة 908 ميلادية، وسرقوا أهم ركن مُقدّس في الحجّ هو الحجر الأسود βαίτυλος

ونقلوه إلى القطيف قُرب البحرين، حيث بنوا كعبتهم المشرفة على شكل دائري وليس مربّعًا، ولا زالت أطلالها قائمة يمكنكم زيارتها في منطقة الجش إلى اليوم

يُخبرنا الدكتور جواد علي في (مُفصّله) بوجود عشرات الكعبات في الجزيرة العربية قبل الإسلام

هذه الكعبات كانت مراكز عبادة وتقديس لمذاهب وديانات مُختلفة كانت مُنتشرة في الجزيرة العربية

حيث تُقام فيها مناسك الحجّ، نعم (حجّ) باللغة الآرامية والعبرية معناها احتفال ديني

بحسب الموروث الإسلامي مكّة الحالية كانت تقام فيها مناسك حجّ وثنية لوجود مئات الأوثان والأصنام داخلها

فهل الرسول كان ينوي الحجّ أيام صُلح الحُديبية داخل زحمة الأصنام والأوثان؟ فكّر فيها!

تقول الرواية الإسلاميّة بأنّ مكّة بناها أبو الأنبياء الخليل إبراهيم في زمن قديم

وكانت تجارة مكّة والحجّ بواسطة القوافل سبب وجودها في التاريخ

والغريب أنّنا لم نجد ذكرًا لمكّة قبل أواخر القرن الأول الهجري في أي مصدر تاريخي يؤكّد تاريخية مكّة

وبالتالي يُعطي مصداقية للموروث الإسلامي برُمّته

فهل يُعقل أن يستشهد المؤمن بتاريخية مكّة على كلمة واحدة عليها مئة علامة استفهام في مصدر التاريخ العالم القديمة كلّه

وأقصد كلمة مكورابا التي ذكرها بطليموس الإسكندري في القرن الثاني الميلادي

فهي دون شكّ حسب رأيهم مكّة المكرمة،

وعندما نرجع إلى مُعجم خريطة بطليموس نجده يقول: إنّها في شمال غرب أرابيا فيلكس يعني بالقُرب من شمال اليمن حاليًا

ويُحدّد موقعها بين مدينيتن Centos جزان في أقصى الجنوب الغربي للسعودية حاليًا، وThebe مدينة لحيي داخل الحدود اليمنية، يعني أكثر من 700 كيلو متر تبعُد عن مكّة الحالية

ومن المؤكّد أنّ بطليموس لم يزُر مكورابا هذه، فقط نقل أخبارها عن بعض التجّار، هذا لو سلمنا بدقّة خريطته

نعم ذكرت مدينة يثرب المدينة المدورة، باسم Lathrippa في منطقة أرابيا ديزيرتا

وليس هناك أي إشكاليّة في تاريخيتها قبل الإسلام، فلماذا تختفي مكّة من كلّ السجلّات والعقود والمخطوطات والنُقوش والعُملات قبل الإسلام؟

ألا يوجد في التاريخ أي مؤرّخ أو رحالة أو جغرافي أو تاجر أو قائد عسكري ذكر اسم مكّة قبل الإسلام، غير مكورابا هذه؟

وكأنّنا نبحث عن إبرة داخل محيط،

للرد على هذا السؤال، نلقاكم في الحلقة المُقبلة، فكونوا معنا، وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 108

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 6 | خطأ الدكتورة أسماء هلالي في قراءة نص طرس صنعاء
أهلًا بكم أحبائي الكرام! في عُجالة نذكّركم بالحلقة الماضية، بدأنا [...]
111 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 5 | مع محمد المسيّح
أهلًا بالجمهور الكريم الحلقة الماضية ذكرنا نقطتين مهماتين وهي أولًا [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 4 | مع محمد المسيّح
1- أهلا بكم مشاهدينا الكرام في الحلقة الماضية توصلنا لنقطة مهمة جدا 2- [...]
13 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 3 | مع محمد المسيّح
أهلًا بالجمهور الكريم في الحلقة الماضية إتحدثنا على المعايير العلمية [...]
10 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 2 | مع محمد المسيّح
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 2 | مع محمد المسيّح أهلًا بالجمهور [...]
23 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 1 | مع محمد المسيّح
  الحلقة الأولى من برنامج التاريخ المبكر للإسلام أهلًا بيكم [...]
36 views

Page 13 of 13

اترك تعليقاً