التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 109 | مكة عند المؤرخين القدماء

أهلًا بالأحبّاء الكرام!

في الحلقة الماضية تحدّثنا عن إشكالية مكّة، وطرحنا في نهاية الحلقة سؤالًا مُهمّا في صيغتين

الأولى، لماذا تختفي مكّة من كلّ السجّلات والعُقود والمخطوطات والنُقوش والعُملات قبل الإسلام؟

والثانية، ألم يوجد في التاريخ أي مؤرّخ أو رحّالة أو جُغرافي أو تاجر أو قائد عسكري أو مُبشّر، ذكر اسم مكّة قبل الإسلام؟

بالنسبة للمؤمنين بتاريخية مكّة، فهي مدينة قديمة جدًا، ضاربة جذورها في عمق التاريخ،

لكن عندما نرجع لهذا التاريخ لا نجد لها ذكرًا في أي تاريخ ماديّ يُذكر قبل الإسلام

نبدأ من القرن الخامس قبل الميلاد، مع المؤرّخ اليونانيّ Herodotusعاش ما بين 485 إلى 425 قبل الميلاد

الذي ذكر مدنًا كثيرة في بلاد العرب، وزارها بنفسه ووصف جغرافيتها في كتاباته ولكنه لم يذكر مكة

ثم ننتقل لعصر الإمبراطور Alexander the Great of Macedon، أو الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلادي في حملته العسكرية ثم كلف رفيقه القائد والمؤرخ Ptolemy I Soter

وكذلك المؤرخ اليوناني Aristobulus of Cassandreia، بتقديم تقرير مفصل حول المُدن المُطلّة على شواطئ البحر الأحمر، والمناطق المجاورة لها بثقافاتهم وأديانها، ولم يذكر مكّة

ثم ننتقل إلى القرن الثالث قبل الميلاد، مع المؤرّخ Theophrastus الذي كتب عن جغرافية بلاد العرب، وتحدّث عن السبأيين في اليمن، وتجارتهم والطُرق البحرية، ولم يأتِ بذكر لمكّة.

ثم ننتقل إلى القرن الثاني والثالث قبل الميلاد، مع العالم الإغريقيEratosthenes of Cyrene  القيرواني  وهو عالم في الرياضيات والجُغرافيا والفلك

قد جمع من كتبة الإسكندرية التقارير التي قُدّمت Alexander the Great of Macedon أثناء حملته العسكرية على الشعوب والدول التي احتلّها

ومن بينها بلاد العرب، ومرة أخرى لا يوجد أي ذكر لمكّة في كتاباته.

قم ننتقل للقرن الثاني قبل الميلاد مع الجغرافي والمؤرّخ اليوناني Agatharchides of Cnidus وقد عمل مستشار لبطليموس السادس،

كتب العديد من الكتب تدعى (Ta kata ten Europen) أكتر من 59 كتابًا حول المُدن والمناجم وطُرق الحياة والشعوب ومعابدهم، وذكر تفاصيل دقيقة عن سواحل البحر الأحمر من الضفتين

ومكّة لا تبعُد عن الساحل سوى مسافة يومين مشيًا ما يُعادل 55 ميلًا

ولم يكُن لها ذكر بين المُدن والقُرى الموجودة في ذلك العصر.

ننتقل للقرن الأول قبل الميلاد، حيث قام الحاكم الروماني Aelius Gallus على مصر سنة 31 قبل الميلاد بحملة عسكرية،

بطلب من الإمبراطور الروماني أغسطس للاستيلاء على أرض العرب الجنوب ومملكة سبأ،

وتقدّم بجيشه بمساعدة الملك النبطي عبّادة الثاني من شمال الجزيرة العربية إلى مشارف أرض اليمن قطع مسافة 1400 كيلو متر تقريبًا عبر صحراء مدة ستة أشهر،

والنتيجة فُقدان عدد كبير من جيشه بسبب الأمراض، وقلّة مراكز التزويد بالطعام والمياه

فلو كانت مكّة موجودة لذكرت في هذه الحملة العسكرية، من طرف صديقه المؤرّخ اليوناني Strabo وهو جغرافي رسم العديد من الخرائط، ميّز فيها بين أجزاء بلاد العرب بين قوسين (خريطة)

وأيضًا مرة أخرى لا وجود لمكّة.

ثم ننتقل للقرن الأوّل الميلادي مع المؤرّخ الروماني Gaius Plinius Secundus وهو قائد عسكري كان صديقًا للإمبراطور الروماني Vespasian في كتابه الخامس الفصل 12 كتب عن سواحل البحر الأحمر

من جهة الجزيرة العربية، وذكر معلومات دقيقة عن بلاد العرب في كتابه السادس الفصل 32 و33، وذكر ما يُناهز 92 مجموعة وقبيلة في بلاد العرب،

ومرّة أخرى لا ذكر لمكّة.

ثم ننتقل لما بين القرن الأول والثاني الميلادي مع المؤرخ والقائد الروماني Lucius Flavius Arrianus

مرّة أخرى لا ذكر لمكة في كتاباته.

ثم نصل للمؤرخ بطليموس السكندري الذي ذكر ماكروابا التي تحدّثنا عنها في الحلقة الماضية، وقُلت: أنه وضعها في منطقة أرابيا فيلكس بين مدينيتن Centos أقصى الجنوب الغربي للسعودية حاليًا

ومدينة Thebe لحيى داخل الحدود اليمنية، وقُلت يعني أكتر من 700 كيلو متر عن مكة الحالية

ابتداءً من القرن الثاني الميلادي أصبحت العقيدة المسيحية تكتسح مناطق عديدة بسبب التبشير

ولم يترك المُبشّرون سوقًا أو قرية مهما كان بُعدها، إلّا وراحوا إليها بقصد تبليغ رسالة الخلاص

خاصة بعد اعتناق الإمبراطور الروماني قُسطنطين الأوّل العقيدة المسيحيّة في القرن الرابع الميلادي

فأصبحت جُغرافية العالم بفضل التجارة والتبشير والحملات العسكرية تذكُر حتّى القُرى الصغرة التي لا قيمة لها بين المُدن التاريخية

ومع ذلك لا ذكر لمكّة.

لا عند البيزنطيين ولا الفرس ولا السريان ولا الأقباط ولا الإثيوبيين، إنّها مُعضلة من الطراز الأوّل!

وصولًا إلى القرن السادس الميلادي مع المؤرّخ السريانيProcopius  القيسري الذي عاش ما بين 500 و565 ميلادية،

ورافق قائد الجيش البيزنطي Flavius Belisarius في حملته العسكرية،

كذلك تحدث في كتاباته عن أبراها وحُروبه ضدّ عرب الجنوب وانتصاره عليهم

ولم يذكر مكّة.

بخلاف ما جاء في الرواية الإسلاميّة، أن أبراها حاول تدمير كعبة مكّة.

ننتقل إلى عصر الرسول في القرن السابع الميلادي، فالمؤرخ الأرميني  Sebeos  تحدث عن حروب هرقل ضدّ الفُرس ودخول العرب إلى المناطق التي كانت تحت سيطرتهم

ثم ذكر محمّد بالاسم، “محمّت” لكن لم يذكر شيئًا عن مكّة،

لكنّه ذكر منطقة جنوب الأردن كموطن إطلاق، انطلق منه العرب بقيادة محمّد

وتحالفهم مع اليهود المُضطهدين من قبل هرقل، ولم يأتِ بذكر عن مسقط رأس محمّد، مكّة المكرمة.

أيضًا وثيقة  Doctrina Jacobi تحدّثت عن نبيّ ظهر بين العرب، وغزا فلسطين، ولكن لم تذكُر مكّة.

لم تذكر مكّة كمكان جُغرافي إلا بعد مرور فترة على مقتل عبد الله بن الزبير، في عصر عبد الملك بن مروان في نهاية القرن الأول، أو بداية القرن الثاني الهجري

أمام هذه الأسماء الكبرى من المؤرّخين مُنذ القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي لا وجود لذكر مكّة، لا في كتب التاريخ، ولا عند الجغرافيين ولا تُجّار القوافل عفوًا!

ولا مُبشّرين، ولا رجال الدين اليهود، ولا نقش بأي لُغة أو عُملة أمام هذا التنقيب في التاريخ

فما على أصحاب تاريخية مكّة إلا البحث وتفنيد ما قدّمناه بالدليل والبُرهان، لا بادّعاء التواتر

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 109

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً