التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن

تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام!

في الماضية كنّا بدأنا الحديث عن إرسال الخليفة عثمان بن عفان المصاحف المنسوخة من مصحف الإمام إلى الأمصار

وهي مكّة، المدينة، دمشق، البصرة وأخيرًا الكوفة،

هذه المُدن أصبحت قبلة لحفظ القُرآن وتعليم قراءته، ممّا جعله تحظى بنشأة خمس مدارس في مدارسها الكبرى

مسجد دمشق ومسجد الكوفة مسجد البصرة جامع خطوة الإمام عليّ، ومسجد الحرم المكي، وأخيرًا المسجد النبوي في المدينة المنورة

 هذه المصاحف التي أُرسلت إلى الأمصار، كانت كما قلنا خالية من التنقيط بين قوسين (نُقط الإعاجم) والتشكيل بين قوسين (حركات الإعراب) والهمزة بين قوسين (اختراع الخليل بن أحمد الفراهيدي)

بحُكم أن قريش كانت تُسهّل الهمز، أي كانت لا تنطق الهمزة، وأيضًا ألف المد

فأشهر علماء القراءات المختلفة كأبو عمر الداني وابن الجذري عزوا خلوّ المصاحف من التنقيط والتشكيل، حتى تستوعب قدر الإمكان ما كان مُرخّصًا به من القراءات على عهد الرسول

وهذا غير صحيح، لأنّ الخط العربي القديم المُتطوّر عن الخط النبطي كان خاليًا من التنقيط حتى قبل الإسلام

ولعلّ نقش النمّارة الذي يرجع لسنة 328 ميلادية، لملك أمرو القيس بن عمرو

الذي عُثر عليه في بادية عفوًا سوريا، والموجود حاليًا في متحف اللوفر في باريس لأكبر شاهد على خلوّ الحرف العربي من التنقيط ومن التشكيل

وحتّى في أيام ما يُسمّى بالفتوحات الإسلامية، فالبرديات العربية تشهد على خلوّ الحروف من التنقيط كالبردية رقم 558  Papyri EPF, no للقائد العربي عبد الله بن جبر، تعود لسنة 643 ميلادية

وتوجد حاليًا في المكتبة الوطنية النمساوية، فيينا،

هذا الادعاء من عُلماء القراءات هو فقط من أجل إضفاء شرعية على القراءات المُختلفة التي ظهرت منذ البدايات الأولى لنشأة الإسلام بحسب الرواية الإسلاميّة

واعتبارها مُرخّصة من الرسول نفسه، أو إقرارًا منه.

فلو كان ما ادّعاه هؤلاء العُلماء صحيحًا، لماذا البرديات العربية جاءت خالية من التنقيط؟

هل لقراءاتها على عدّة طُرق مُختلفة؟ فرغم توحيد عثمان بن عفان رسم المصاحف وحرق ما يُخالف مُصحفه، إلّا أنّ الموضوع لم يتوقّف بل بقي إلى عصر الخليفة عبد الملك بن مروان

حيث حاول وليّه على العراق الحجّاج بن يوسف الثقفي، تجويد وتحسين رسم عثمان، فأضاف ألفي ألف على كلمة قالوا وقال

وهذا ما نجده فعلًا كفرق بين مُصحف Parisino-petropolitanus وباقي المصاحف بعده

كذلك وضعت نُقط أبي الأسود الدؤلي لتوحيد القراءات التي كثُرت في هذه الأمصار

وبيقت القراءات تكثُر وتكثُر إلى أن جاء ابن مُجاهد ما بين القرن الثالث والرابع الهجري

مُحاولًا اختيار أشهر القراءات وأحسنها على الإطلاق بقبول أصلين فيها

الأصل الأول: مُطابقة رسم مصحف عثمان، والأصل الثاني: أن تكون صحيحة السند، حملها رواية موثوقون

فخرج لنا بسبع قراءات مُختلفة من هذه المدارس التي ذكرنها

فمن مدرسة الكوفة، قراءة عاصم المُتوفّى سنة 127 هجري، وقراءة حمزة المُتوفّى سنة 156 هجرية

ومدرسة البصرة قراءة أبو عمرو المُتوفّى سنة 154 هجرية، ومن دمشق قراءة ابن عامر المُتوفّى سنة 118 هجرية، وهي أقدم القراءات السبع

وفي مكّة قراءة ابن كثير المُتوفّى سنة 120 هجرية، وأخيرًا في مدرسة المدينة قراءة نافع المُتوفّى سنة 169 هجرية

فاختيار ابن مجاهد لهذه القراءات جاء من وسط قراءات كثيرة لكلّ مُقرئ

فعل سبيل المثال: نافع أخذ عن أكتر من 70 شيخًا من التابعين،

وكان يأخذ القراءة التي يوافق عليها اثنين من شيوخه على الأقلّ، “وإن شذّ فيها واحد تركها” كما قال “الأشوح”

إذًا كل مقرئ من هؤلاء القُرّاء أخذ لعديد من القراءات عن شيوخه، فاختار منها مُجاهد الأفضل بحسب الأصلين، الرسم العثماني والسند الصحيح

فلمّا جاء الرواة عنهم احتاروا فيما يُقدّمونه من قراءات، فنجد مثلًا: المقرئ نافع أكثر رواية شهرة الذين راووا عنهم هُما: قالون وورش

وعندنا في المغرب وشمال إفريقيا وأجزاء من السودان نأخذ برواية ورش عن نفاع

لا بد أن نعلم اختار لنفس قراءة من القراءات التي تعلّمها في بلده مصر،

فوافق ذلك رواية قراها نافع عن بعض شيوخه، فتركه على ذلك

أمّا قالون فكان ربيب نافع، وأخصّ الناس به، فجاءت روايته بخلاف رواية ورش في 3 ألف حرف من قطع وهمز وتخفيف وإدغام وغيره

إذًا، هذه القراءات السبع ظهر في القرن الثاني الهجري، وأصبحت رسميّة على يد ابن مُجاهد ما بين القرنين الثالث والرابع الهجري كما سبقت الإشارة

وتصدّى في عهده إلى القُراء الذين يقرؤون بالقراءات الشاذة كابن شنبوذ وابن مقسم العطّار عفوًا!

حتّى استتاب سنة 332 هجرية بحضرة الوزير أبي علي بن مُقلة، لكي يغلق باب الاجتهاد في القراءات المُختلفة

ورغم هذا المنع بقي فقهاء القراءات المُختلفة يتجادلون حول صحّة باقي القراءات الأخرى

التي اعتبرت شاذّة حتى بداية القرن التاسع الهجري، أي بعد خمس قرون من الجدل والنقاش،

نجح ابن الجذري في إضفاء أو إضافة 3 قراءات أخرى مُعتمدًا على رسم مصحف عثمان، والسند الصحيح

ورفع شرط القبول بالقراءات إلى التواتر، وأفتى بتكفير كلّ من زاد عن 3 قراءات بعد السبع

فضمّ باجتهاده إضافة المُقرئ أبو جعفر من المدينة المُتوفّى سنة 130 هجرية، ومن مدرسة الكوفة المُقرئ البزّار المُتوفّى سنة 229 هجرية

ومن مكّة المُقرئ الحضرميّ المُتوفّى سنة 205 هجرية، ورغم هذه الفتوى وبعد أكثر من 3 قرون أخرى من الجدل استطاع الإمام البنّا الدمياطي المُتوفّى سنة 1017 هجرية أن يحسم الأمر القراءات الشاذة ويُضيف أربع قراءات أخرى بعد العشرة

تستوفي الشروط السابقة، فضمّ من مدرسة البصرة المُقرئ الحسن البصري المُتوفّى سنة 110 هجرية واليزيدي المُتوفّى سنة 202 هجرية

ومن مدرسة الكوفة المُقرئ الأعمش المُتوفّى سنة 148 هجرية، ومن مكّة ابن مُحيسن المُتوفّى سنة 120 هجرية

لكلّ مقرئ من هؤلاء القُراء ال 14 عشر على الأقل اثنين من الرواة، وكلّ هذه القراءات لم تظهر إلّا بعد قرنين بعد موت الرسول

ولم يحسم في القراءات الشاذّة إلّا بعد أكثر من عشر قرون على جمع القُرآن

ولو نظرنا لكتاب (الكامل في القراءات) لأبي القاسم الهُذلي في القرن الخامس الهجري، نجد فيه خمسين قراءة عن الأئمة و1459 رواية وطريقة

تُلخّص إشكالية القراءات المُختلفة، رغم أنّ هذه المُعضلة الكبرى في القراءات المُختلفة سببها الحرف العربي القديم الذي كان كما قُلنا خاليًا من التنقيط والتشكيل والهمز وألف المدّ

لا زلنا نجد من يقول: إنّ القُرآن كان محفوظًا في الصدور

والسؤال المطروح هل كان محفوظًا في الصدور أربعة عشر قراءة، أم خمسون قراءة، أو 1459 رواية وطريقة؟

نكتفي بهذا القدر، ونترُك هذه الأسئلة كي يجب عليها أصحاب القُرآن محفوظًا في الصدور، وإلى اللقاء في الحلقة القادمة!


Download text file

Early History of Islam 118

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
13 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 117 | القراءات المختلفة وعلاقتها بالقرآن
تحيّة لكُم مُتابعينا الأفاضل! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن مفهوم [...]
4 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً