التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف

أهلًا بالمُتابعين الكرام!

في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن وجمعه وتطوّره من خلال أحرفه السبعة،

وقراءات وروايات مُختلفة وصلت إلى أكثر من 1459 رواية وطريقة في القرن الخامس الهجري

وبقي الرقم يتضاعف في القرون التالية إلى أن جاء الإمام البنّا الدمياطيّ عفوًا، في القرن الثاني عشر الهجري ليضع حدًا لهذا التضخُّم

ووثّق أربع قراءات بعد العشر لتُصبح قراءات رسمية للقُرآن بين المُسلمين

لكن دخول آلة الطباعة إلى مصر أثناء الحملة الفرنسيّة في نهاية القرن الثامن عشر الميلاديّ بقيادة نابليون بونابرت، أي 1798 ميلادية

وإشراف المُستشرق الفرنسي Joseph Marcel Jean على هذه المطبعة، ساهم بالتسريع في فكرة طبع المصحف رغم المُعارضة الشديدة من قبل شيوخ الأزهر الذين احتجّوا بأنّ آلات الطباعة غير لائقة بكلمة الله

فأنشأ محمّد علي باشا مطبعة بولاق سنة 1822 ميلادية، وبدأت بالفعل طباعة الكُتب العربية، ففسحت الطريق أمام طبع المصحف سنة 1833 ميلادية

التي تمّت برعاية محمّد علي باشا، رغم كما قُلنا المُعارضة الشديدة من شيوخ الأزهر

إلّا أن هذه الطبعة الأولى للمُصحف لم تنجح كما نجحت طبعة 1924 ميلاديّة في القاهرة تحت إشراف لجنة مُعيّنة من الحكومة المصرية برئاسة محمّد علي الحسيني الحدّاد

وكان الغرض منها تأسيس نص موحّد من أجل التعليم الديني في مصر

هذه الطبعة التي يُنظر إليها الآن على نطاقٍ واسع بوصفها النصّ الرسمي للقُرآن

أمّا طبعة الملك فاروق سنة 1936 ميلادية فقد أجريت تعديلات ثانوية عليها، وهي برواية حفص عن عاصم

وانتشر هذا المُصحف بسرعة إلى ما وراء مصر، وأصبح مُتبنّى عالميًا من المُسلمين سنة وشيعة

ممّا جعل مُعظم المُسلمين البُسطاء يعتقدون بوجود مصحف واحد بقراءة واحدة

وهذا الاعتقاد السائد بعيد كلّ البُعد عن الحقيقة من خلال المسيرة التاريخيّة للقُرآن، والمصاحف كما رأينا في هذه الحلقات

فلولا التدخُّل السياسي للخليفة عثمان بن عفان لوقف انتشار مصاحف الصحابة المُختلفة، وفرض مصحفه بقوة السيف، وكذلك الحجّاج بن يوسف الثقفي

ولولا مُحاولة ابن مُجاهد تحجيم القراءات في السبع فقط، وقفل باب الاجتهاد في قبول قراءات شاذة

لكانت الساحة تعُجّ الآن بآلاف المصاحف المُختلفة، وربّما ظهور فُرق إسلاميّة مُختلفة، تختلف باختلاف هذه المصاحف

والسؤال المطروح: هل وصلنا إلى برّ الأمان مع توحيد القراءت والمصاحف عالميًا؟ الجواب: لا بالطبع

فوجود مخطوطات قديمة للمصاحف الأولى التي تعود لنهاية القرن السابع الميلادي وبداية القرن الثامن سوف تُعيد دراستها من قبل المستشرقين أمثال Gerd R, Puin  وغيره لهذه القراءات المُختلفة،

وإظهار الأخطاء التي وقعت أثناء مُحاولة قراءة النصّ القُرآني القديم قبل التنقيط والتشكيل

فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد ظاهرة المدّ وسط الكلمة بنبرة بدلًا من الألف

حيث كانت شائعة جدًا في المصاحف الأولى، وانتبه لها المُستشرقون ك Puin  حين لاحظ في مخطوطة طرس صنعاء DAM01-29.1 في سورة غافر كلمة (إلىه) بنبرة قبل الهاء

ولا يُمكن قراءتها إلّا بألف المدّ، وقد فطن لهذه الظاهرة جُلّ قُراء المصاحف، فنجد كلمة فسوىهنّ في سورة البقرة بنبرة قبل الهاء، وكلمة فأتىهم في آل عمران، وهذىن في سورة الأنعام بنبرة قبل النون

وكلمة بأيىم في سورة إبراهيم الآية 5 جاءت بنبرة قبل الميم، «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» (إبراهيم:5)

 فكلمة إبراهيم هي في الأصل بألف المدّ، وليست ياء قبل الميم، والدليل وجودها بدون نبرة في كلّ سور البقرة عفوًا

لا وجود لألف في كلمة إبراهيم، فهي فالأصل كما قلنا أبراهام كما هي في العبري

وكذلك كلمة بأيد في سورة الذاريات: 47  «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» (الذاريات: 47) ما هي في الأصل بأيادٍ

وكذلك كلمة الشيطان، كما جاء في سورة البقرة 36 «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ» (البقرة: 36)

 و168 «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (البقرة: 168)

 و208 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (البقرة: 208) وغيرها

هي في الأصل شطن، أو شاطان وهكذا،

لإعادة النصّ القُرآني لأصوله اللغويّة القديمة، يتبيّن للباحث التطوّر الذي مرّ منه النصّ القُرآني إلى أن وصلنا الآن بشكله الحالي

فلم يُبنى هذا النصّ على تطوّر حروف السريانية من الخطّ الكرشوني إلى الخطّ العربي في القرن السابع الميلاد

ولكن، من خطّ نبطي في القرون الأولى من الميلاد إلى خط عربي نبطي ابتدأ من القرن الرابع الميلادي وحتى القرن السادس والسابع الميلادي

حين أصبح الخطّ العربي مُستقلًّا عن سلفه النبطي، وما نقش النّمارة كما قُلنا، ونقش الإله أوباداس، ونقش شرحبيل، وغيرها من النقوش قبل الإسلام إلّا أدلة دامغة على هذا التطوّر الطبيعي للحرف العربي

أمّا اللسان العربي الذي جاء به القُرآن فما هو سوى مجموعة لهجات عربية قديمة تطوّرت عن اللغة الآراميّة القديمة وأخذت فرعًا خاصًا به كاللغة السريانية والمندائية والعبرية

فيها حمولة ثقافية شرق أوسطية مشحون بالفكر الديني ثقيل من التعليم والتُراث السرياني

كقصة فتية أفسس أهل الكهف وذو القرنين الإسكندر، ومجلة لقمان أحيقار، وغيرها بشكل كبير

وبالتعليم اليمني والحبشي بشكل جزئي، تكشفه البصمات اللغوية في النصّ القُرآني من كلمات لوتورجية مسيحيّة يهوديّة كما سبقت الإشارة له في إحدى الحلقات

فكلّ هذه الدراسات الاستشراقيّة عفوًا جاءت استجابة لتساؤلات مُهمّة في بداية الآية 82 من سورة النساء «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ…» (النساء: 82)

ومن العجيب أن نجد التفاسير الإسلاميّة للنصّ القُرآني في ظلّ اجتهاد الفُقهاء المُسلمين مبنيّة على التخمين في مُعظمها

فتجد لكلمة واحدة فالقُرآن العديد من التأويلات ككلمة «وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» (الحاقة: 36)

«وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا» (مريم: 13)

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا» في سورة (الكهف: 9)

فلو أخذنا هذه الكلمة بين قوسين (الرقيم) من أمّهات التفاسير الإسلاميّة، نجد الكلمة تعني اسم الوادي الذي فيه كهف

قاله مُجاهد، وعطية، وقتادة،

المعنى الثاني لكلمة الرقيم، داهمهم، قاله النقّاش عن قتادة،

المعنى الثالث لكلمة الرقيم، هو اسم قرية، قاله كعب الأحبار

المعنى الرابع لكلمة الرقيم، الصخرة التي كانت على الكهف، قاله السُدّي.

خامسًا للمعنى كلمة رقيم هو كتاب في لوح من نُحاس، قاله ابن زيد.

المعنى السادس لكلمة الرقيم هي الذوات، قاله عكرمة.

المعنى السابع لنفس الكلمة، بلدة بالروم فيها الغار، قاله الضّحّاك.

ثامنًا المعنى لكلمة رقيم طبعًا، أصحاب الغار، وغيرها من التأويلات المُختلفة

فمن الشائع أن تجد في تفاسير عُلماء الإسلام عبارة (اختلف أهل التأويل بتأويل ذلك)

وكأنّهم لا يشعرون بخُطورة الأمر في الشقّ الثاني من الآية التي تدعو للتدبير «…وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» في سورة (النساء: 82)

ولتأكيد هذا التخمين في نهاية أي تأويل مُتعدّد تأتي العبارة المشهورة (والله أعلم!)

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في الحلقة المُقبلة، فكونوا معنا!


Download text file

Early History of Islam 119

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
13 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 117 | القراءات المختلفة وعلاقتها بالقرآن
تحيّة لكُم مُتابعينا الأفاضل! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن مفهوم [...]
4 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً