التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)

أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام!

في الحلقات الماضية، كنا قدمنا ولا زلنا سلسلة من الدراسات حول أصول القُرآن

ومعرفة الرسول محمّد بالكتابة والقراءة، وفي ظلّ نفس الدراسة وصلتنا تعليقات من بعض المُهتمّين

بما أقدّمه في هذه الحلقات، أذكر منها تعليقًا جاء بعد نشر الحلقة 120 بعنوان (إشكالية التنقيط في القُرآن)

وبالضبط حول القراءات المُختلفة، وتغيير المعنى للآيات التي تتضمّن هذه الاختلافات.

يقول صاحبنا في تعليقه، والآن لنعرض ما قدّمته أنت يا أستاذ في هذه الحلقة من أمثلة لنرى أنّ آيات الله المُحكمة سوف تفضح تزوير المشايخ وتُبيّن الكتاب المُنزّل وقراءته الواحدة ورسمه الواحد على لسان قريش. في سورة آل عمران جاء قراءة الآية 146 ورسمها في الكتاب المُنزّل: «وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير» جاء رسمها = قتل. وجاءت قراءته = قاتل، بينما جاءت في القراءة المزوّرة من قبل المشايخ في ورش (طبعًا يقصد رواية ورش عن نافع) رسمًا = قتل، وقراءته = قُتِلَ، فيبدو أنّ الأستاذ نسي بأنّ سياق الآيات المُحكم للآية هو لحفظ الكتاب من التزوير. وعلى كلّ حال سوف نُكمل سياق الآية حتى يتبيّن للأستاذ (أي يُخاطبني) أن الذين يصبرون هم من يبقون على قيد الحياة وليس زملائهم الذي قُتلوا في المعركة، لنعرض سياق الآية: (فما وهنوا لِما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يُحبّ الصابرين) فعند كلّ معركة وقتال هناك خسائر يتكبّدها طرف دون الآخر، تكون صادمة له من خسائر ماديّة وبشريّة في صفوفهم فالذين يكونون على قيد الحياة هم من يصبرون لِما أصابهم من خسائر ماديّة وبشريّة في سبيل الله، ولا يهنوا ولا يضعفوا ولا يستكينوا ويصبروا على ما أصابهم في سبيل الله، وليس من قُتلوا في المعركة يا أستاذ. فكلمة قاتَل هي الصحيحة وليست قُتل” انتهى الاقتباس

سيدي الكريم، عندما قدّمت هذه القراءات، فقط من أجل التنبيه، على ما وجد كمُعضلة لرسم المصحف الذي كان خاليًا من التنقيط والتشكيل والهمز وألف المدّ

فهذه المُعضلة الأخيرة، وهي غياب ألف المد، ليست فقط في طباعة رسم المصاحف التي بين أيدينا بقراءات مُختلفة، وإنّما كذلك موجود في رسم مخطوطات القُرآن القديمة

وكما تفضّلت الكلمة في رسم قتل بدون ألف المدّ، وبالتالي فالقراءتان حسب رأيي مقبولتان من ناحية السياق

فأنت قدّمت سياق قاتل بمعنى أتباع هؤلاء الأنبياء من بقي على قيد الحياة أثناء المعركة

أو وصفهم النصّ بأنّهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، بعد ذلك بمعنى أنّهم لم يستشهدوا في هذه الحروب

لكن من يقرأ بقراءة ورش عن نافع كما نحن عندنا في المغرب التي قُلت عنها مزوّرة وغير صحيحة فالسياق يا سيدي يتحدّث عن النبيئين الذين قتلوا في سبيل الله

كالمسيح عيسى بن مريم، ويحي بن زكريا بين قوسين (يوحنا المعمدان) وغيرهما

وليس عن أتباعهم، لأنّ هؤلاء الأنبياء نالوا الشهادة وهي أعظم درجة من الصابرين يا أستاذ

وقد أشار القُرآن لهؤلاء الأنبياء والرُسل، في بعض الآيات منها: سورة البقرة الآية 61 «…وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» (البقرة: 61)

وكذلك الآية 87 «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ» (البقرة: 87)

ثمّ الآية 21 في سورة آل عمران «… وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ …» (آل عمران: 21)

إذًا، قراءة ورش عن نافع، ليست خاطئة حسب السياق النصّ يا أستاذ.

والتي يتعبّد بها جمهور عريض من المُسلمين من أهل شمال إفريقيا والسودان

ما أود تقديمه من خلال هذه الأمثلة، ليس الطعن في اجتهاد الشيوخ الإسلام كما فعلت

وإنّما التنبيه لأُسّ الإشكال وهو بدائيّة ظهور الخط العربي أثناء تدوين ونسخ القُرآن في القرن السابع الميلادي

وما خلفه من أو من خلّفه من تأثير على النصّ الأصلي للقُرآن، من ظهور قراءات مُختلفة عديدة وصلت إلى 1459 طريقة ورواية وقراءة في عصر أبو القاسم الهُدلي

حدّدها الإمام البنّا الدمياطي ب 14 قراءة صحيحة في القرن الثاني عشر الهجري

فقبل أن تتسرّع يا أستاذ في تعليقك حول أو حاول أن تفهم الموضوع في الحلقة ربّما عدم فهمك للإشكال الذي أطرحه كان سببه عدم قُدرتي على التبليغ

وها أنا أحاول مرّة أخرى إعادة الموضوع بطريقة أخرى، أتمنّى أن أنجح هذه المرة!

دعنا من إشكاليّة غياب ألف المدّ في رسم المُصحف والأمثلة التي قدّمتُها بين القراءات المُختلفة

كرواية حفص عن عاصم، ونظيرتها ورش عن نافع. يُمكن تقديم العديد من إشكاليّات القراءات بحسب الفيلولوجيا، بعيدًا عن التقليد الإسلامي

فما تعلّمته من خلال هذه المادة العلميّة من الدكتور “كرستوفر لوكسمبرج” يُفيد أنّ الإشكال أعظم وأوسع ممّا جاء به الموروث الإسلاميّ على سبيل المثال لا الحصر

عندما ننظُر للآية 71 من سورة البقرة التي تتحدّث عن لسان موسى لبني إسرائيل في وصف البقرة التي تُقدّم كذبيحة تطهير من النجاسة

تقول الآية: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ» (البقرة: 71)

ثم يتبعها القُرآن بالحديث عن ذبيحة فدية لقاتل مجهول في الآيتين 72 و73 «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (البقرة: 72 – 73)

في نفس الوقت هي ذبيحة تطهير لشيوخ أقرب قرية وجدت فيها الجثّة،

هذا الموضوع، موضوع أخر نجده في بداية سورة عفوًا سفر التثنية الآية 21 ويُمكن الحديث عنه في حلقة خاصة.

نعود للآية 71 فالكلمة شية، كلمة يتيمة جاءت مرّة واحدة في القُرآن، απαξ λεγομενον

اختلف المُفسّرون فيها أو فيما معناها بمعنى لا لون فيها يُخالف لون جلدها

ومنهم من حدّد اللون المُخالف باللون الأبيض أي لا بياض فيها

وهناك من أضاف ولا سواد، وكلّ هذه التأويلات، تُشير للون رغم أنّ الآية صريحة، فالآية التي قبلها حيث تقول.

«قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» (البقرة: 69)

ولمعرفة الكلمة بين قوسين (شية) يجب العودة إلى أصلها في التوراة

حيث نجد وصف البقرة في سفر العدد الإصحاح 19 العدد 2 و3 يقول النصّ: «هذِهِ فَرِيضَةُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ قَائِلًا: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَيْكَ بَقَرَةً حَمْرَاءَ صَحِيحَةً لاَ عَيْبَ فِيهَا، وَلَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا نِيرٌ، فَتُعْطُونَهَا لأَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ، فَتُخْرَجُ إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ وَتُذْبَحُ قُدَّامَهُ» (عدد 19: 2 -3)

هذه البقرة لم يعلو عليها نير أي «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا …» (البقرة: 71)

بمعنى لم تُستخدم في الحرث والسقي، وكلمة مُسلّمة أي صحيحة كما جاء في التوراة.

بقيت كلمة (شية) بين قوسين في الأصل، قبل التنقيط س ى ه تُقرأ شبه، جمع شُبه والشُبه في الشرع ما ألتبس أمره فلا يُدرى حلال هو أم حرام، وحقّ هو أم باطل

وما يؤكّد هذا المعنى الآية التي جاءت قبلها تقول «قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلۡبَقَرَ تَشَٰبَهَ عَلَيۡنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهۡتَدُونَ» (البقرة: 70)

عند عبارة تَشَٰابَهَ عَلَيۡنَا فتصبح الآية قال: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شُبهٌ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ» (البقرة: 71)

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة، فكونوا معنا!


Download text file

Early History of Islam 124

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 117 | القراءات المختلفة وعلاقتها بالقرآن
تحيّة لكُم مُتابعينا الأفاضل! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن مفهوم [...]
4 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً