التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 71 | لماذا نقدم لكم نظريات المستشرقين؟

أهلًا بكم أحبائي الكرام!

في الحلقتين السابقتين تحدّثت عن نظرية الدكتور Guillaume Dye من جامعة بروكسيل

حول تكوين طبقات النصّ القُرآني، وأنّ تأليف وجمع القُرآن مرّ على الأقل من 3 مراحل مهمّة

المرحلة الأول: تدوين النصّ المؤسّس ويُعتبر نصًا مشحونًا بالروحانيات والمعرفة اللّاهوتية

ثم تضافف عليه تفسيرات واجتهادات شخصية في بعض الأحيان تُسيء فهم النصّ المؤسّس

كالمثال الموجود في سورة الرحمن كما رأينا على ميزان الكوسميك الذي يُفرّق بين مياه السماوات ومياه الأرض

ولا دخل للميزان التّجاري والمكيال في موضوع خلق السماوات والأرض

 وفي المرحلة الأخيرة مرحلة جمع القُرآن، اختلط النصّ الأصلي بالتفسير وأصبح عندنا نص قانوني هو النصّ الذي بين أيدينا بقراءات مختلفة

في بعض التعليقات على ما أقدّمه من مادّة لاحظت الاستياء من تقديم نظريات وأطروحات علميّة عديدة لباحثين غربيين مُستشرقين مُعظمهم ينتمون للمدرسة الألمانية وبالخُصوص تلامذة “تيودور نولدكه”

هذه العقلية ترفض كلّ الدراسات والنظريات العلميّة التي تتوخّى الحذر وعدم التأثّر بالعقيدة وإدخال الناس في البحث

بادعاء أنّها أبحاث استشراقيّة الهدف منها تضليل المُسلم وتشكيكه في عقيدته

في الُمقابل تؤمن هذه العقلية بامتلاكها الحقيقية المُطلقة، وأنها دائمًا على صواب

دون أن تُدرك أن أدمغتنا تحتاج لمعلومات وأبحاث ودراسات علميّة حديثة تجعلنا، أو تجعلها تُفكّر وتُحلّل المُعطيات الجديدة والقديمة معًا

من أجل أن تُصلح مفاهيم خاطئة كانت مُنتشرة على نطاق واسع عبر الزمكان

والاكتفاء بها والانغلاق عليها فيحرمون أنفسهم من تجديد واستمرارية الفكر الحيّ الذي يتطوّر بحسب المُستجدّات العلميّة

فكلّ فكرٍ جامدٍ لا يتطوّر فهو فكر ميّت مُتحجّر، التّمسُّك به كتمسُّك الوثني بعبادة الأوثان

بذريعة هذا ما وجدنا عليه أب آباؤنا وأجدادنا دون فهم لروح الآية في سورة البقرة 170 «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (البقرة: 170)

والمائدة: 104 «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (المائدة: 104)

ولقمان: 21 « وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ» (لقمان: 21)

وغيرها من الآيات التي تدعو للتّفكير في ما يُقدّمه الآباء والأجداد من فكر وعقيدة ودين

مرّة أخرى أنا لا أدّعي امتلاكي الحقيقة المُطلقة، كما يتوهّم امتلاكها بعض العقول التي لا تقبل الاختلاف والتطوّر

قد يقول قائل: نعم هناك تطوّر في الفكر الإسلامي، يُناقش المُستجدات العلميّة وعلى رأسها الاكتشافات العلمية الحديثة الموجودة في القُرآن والحديث

مُنذ أكثر من 14 قرن، ويقصد بطبيعة الحال الأعجاز العلمي في القُرآن والحديث

رغم أنّنا قدّمنا العديد من الدراسات التي تُفنّد وتُهدم هذا الادعاء

 لأنّ أصحابها ينطلقون من نتيجة للوصول إلى كلمة أو عبارة موجودة في القُرآن أو السنة

بعيدة عن المفهوم الفيلولوجي وحتى التفسير التقليدي عند الفُقهاء قبل عصر الاكتشافات

هناك من المُعلقين من يُطالب بتقديم سرديّة موازية للسرديّة الإسلاميّة المعروفة وتقديم سيناريو مظبوط يقف على أرضيّة صلبة علميّة

 وكأن الموضوع حُسم فيه تمامًا وما نحتاج سوى التعرّف عليه والاطمئنان له

وقد قُلت فيما مضى: أنّ الموضوع ليس بالسهل، لوجود ثُقب أسود في البدايات الأولى للتاريخ المُبكّر للإسلام

بسبب حرق الكثير من الكُتب وتدميرها لتغيير هذا التاريخ المجهول،

وما حرق مصاحف كبار الصحابة “كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعلي بن أبي طالب” وغيرها من المصاحف بحسب الرواية الإسلاميّة نفسها

إلّا دليلًا على حرق كُتب ومخطوطات دوّنت في الفترة من أجل مصلحة الحُكام الجدد وكسب الشرعية الدينيّة تُساعدهم على التّحكُم في رقاب الرعية

وفي عصرنا الحالي نرى بوضوح تغييرات جذريّة تحصل في التشريع والعقيدة أمام أعيُننا

فما بالكم بما حصل في العُصور الغابرة بقوّة سُلطة السيف والدّماء؟!

انظر للتغيير الذي يقع في المُجتمع السعودي، من التّشدّد إلى الانفتاح، عكس بع الدول التي تسير من التّفتح إلى التّشدّد

تحدّثت كثيرًا عن مكّة، وعدم وجود أدلّة علميّة أركيولوجية تؤكّد وجودها قبل الإسلام.

ومن خلال المُعطيات القليلة التي تعود لتلك الفترة يُمكن التساؤل،

أين ولد الرسول محمّد؟

إذا كان شخصيّة تاريخيّة حقيقية ذكرته حتى المراجع الأجنبية، وإلى أين هاجر مع بعض أتباعه؟

ماذا وقع بحسب ما توصّلت له الأبحاث العلميّة القليلة التي بين أيدنا الآن؟

نُحاول الجواب عن هذه الأسئلة دون أن ندّعي امتلاك الحقيقة المُطلقة

نبدأ بالنصّ القُرآني ماذا قال عن مكّة؟

كلمة مكّة جاءت يتيمة ووحيدة في القُرآن، وذلك في سورة الفتح الآية 24 « وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا» (الفتح: 24)

مُجمل التفسيرات تقول: إنّ هذه الآية تتحدّث عن صُلح الحديبية، بين المسلمين بقيادة الرسول، وأهل قريش لترك المسلمين القيام بالحجّ بالحرم المكيّ

وسياق الحديث يُشير الاستعداد معركة بين فرقين، فريق المُخاطب (عنكم)، وفريق مُعادي لهم دون تفاصيل تُذكر كعادة النصّ القُرآني لترك المجال مفتوح للتأويل، وحتى للتغيير للأسف

إذا كان الموضوع كما تقول السيرة يتحدّث عن صُلح الحُديبية، الحُديبية بعيدة عن مكّة وليس ببطنها

تبعد عنها بأكثر من 20 كيلو متر، وبالتالي: تترك الباحث في حيرة

والسورة كما يقول الفقهاء: تتحدّث عن فتح مكّة، ومكّة ليست إلى اليوم ذات شأن تاريخي كروما وقرطاج ودمشق والإسكندرية وغيرها من المُدن المعروفة تاريخيًا

وبالتالي: ففتح قريّة غير معروفة في التاريخ ليس لها أيّ قيمة أمام فتح إحدى العواصم العالمية في التاريخ

هذا لو أهملنا التفسير الفيلولوجي لكلمة مكّة بمعنى صدام من معكة، كما ذكر الدكتور “كرستوفر لوكسمبرج” وهذا يتماشى تمامًا ما سياق النصّ

ففتح القُدس وهزيمة الجيش البيزنطي سنة 634 ميلاديّة هو الفتح الحقيقي الذي غير مجرى التاريخ برمّته

فحرب طاحنة حصلت بين الفرس والبيزنطيين بين سنة من سنة 614 إلى 628 كلّها لم تكن لها قيمة أمام انتصار العرب السراسين على البيزنطيين واستلائهم على أقدس مكان حسب اليهود والمسيحيين

 وهي بيت هامقداش أو أورشليم القُدس وليس مكّة يا جماعة الخير التي لم يذكُرها بالاسم أي رحالة في التاريخ ولا عقود ولا مُعاهدات قبل القرن الثامن الميلادي

نُكمل الموضوع عن مكّة وننتقل لكلمة بكّة في القُرآن، في الآية 96 من سورة آل عمران في الحلقة القادمة، فكونوا معنا، وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 071

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
13 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً