التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 86 | القرآن يعكس البيئة التي ظهر فيها.

السلام لأهل السلام، وتحيّة محبّة واحترام، سلامي للجميع!

في الحلقة الماضية بدأنا مُناقشة موضوع البيئة التي ظهر فيها القُرآن،

هل كانت وثنيّة يعبُد أصحابها الأصنام والأوثان؟ وبالتالي النصّ موجّه لهُم مُباشرة أو تمهيدًا لترك عبادة ما لا ينفع ولا يضُرّ.

وإقناع أصحاب هذه العقيدة بتركها وعبادة الله الواحد إله جدّهم إبراهيم الخليل.

وهذه هي الصورة الأُحادية التي ترسّخت في أذهان المُسلمين أكثر من 12 قرن.

فالسيرة والروايات والأخبار تجمع على أنّ مُجتمع قُريش كان مُجتمعًا وثنيًّا على أغلبه

 لكن النصّ القُرآن تقريبًا هو الشاهد الوحيد على ذلك العصر لا يعكس هذه الصورة تمامًا

كلّ الكمّ الهائل من الآيات التي تتحدّث عن الأصنام والأوثان، جاءت كآلهة تُعبد في عصر إبراهيم الخليل والنبي إلياس أو إيليا أو كانت تُعبد عند الأنباط ومملكة تدُمر

وذلك قرون عديدة قبل الإسلام كاللّات والعُزّى ومناة التي ذكرها القُرآن مرة واحدة في سورة النجم خلال الآيتين 19 و 20 ضمن أكتر من 6000 آية في القُرآن

وعليه لا يُمكن أن نُعمّم ثقافة مُجتمع بأكمله على وجود آيتين دون إشارة واضحة إلى هذا المُجتمع، خُصوصًا في ظلّ عدم وجود أي أثار لهذه الآلهة في مكّة والمدينة أي يثرب

كما نجدها في البتراء وتدمُر ولا يذكُر القُرآن تفاصيل بارزة يُمكن الاعتماد عليها للقول: إنّ قُريشًا كانت تعبد هذه الآلهة في عصر الرّسول

والسؤال المطروح: ما هي الخلفية الدينيّة التي ظهر فيها القُرآن؟

للردّ على هذا السؤال نعود للقُرآن نفسه كشاهد على عصره، ولا نعتمد على أقوال السير والأخبار والروايات التي جاءت بعد أكتر من قرن ونصف من الحدث

فالنصّ القُرآني يتحدّث عن موسى كشخصيّة محوريّة حيث احتل المرتبة الأولى في ذكر أسماء الأنبياء بحوالي 137 مرة، ثمّ يليه اسم إبراهيم الخليل في المرتبة الثانية ب 69 مرة

وعيسى بن مريم في المرتبة الثالثة ب 25 مرة

ثم يُقدّم القرآن أهل الكتاب بصفة عامة من اليهود والنّصارى ب 54 مرة

وعلى رأسهم بنو إسرائيل ب 40 مرة، ومثل هذا العدد إحالة للنّصارى، و 3 مرات فقط أشار إلى الصابئة المندائيين أتباع يوحنّا المعمدان.

وذلك في البقرة 62 «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (البقرة: 62)

والمائدة 69  «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (المائدة: 69)

والحج 17 «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (الحج: 17)

ثم مرّة واحدة للمجوس في نفس الآية في سورة الحج الآية 17 «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (الحج: 17) وهم طبعًا الزرادشتيّيون.

وممّا يُلفت النظر كذلك وجود فئة متهوّدة أي ليسوا من عِرق يهودي اعتنقوا اليهودية بعشر مرّات عبّر عنهم (بالذين هادوا) أي يعلنون اليهوديّة،

وحتّى المُشركون فلا نعرف بوجه الدقّة من هُم بحسب القُرآن، هل هم الوثنيون أم المسيحيّون

لأنّه يعتبر المسيحيّين من أهل الشّرك، وذلك في سورة المائدة 72 – 73 «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. (ثم يقول) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ…» إلى أخره. (المائدة: 72 -73)

فالمُشركون مذكرون في عدّة آيات مُعظمها تتحدّث عن الشّرك بصفةٍ عامة، ولا تخُصّ أهل قُريش بالتّحديد

وبعد هذه الإطلالة على النصّ القُرآني، وقد سبقني لذلك الأستاذ الألماني Gerhard Boweing في مقال بعنوان (البحث الأحدث حول بناء القُرآن) نُشر سنة 2007 – 2008

ومن خلال كلّ هذه المعلومات الموجودة في القُرآن، التي كان على اتّصال مُباشر بأهلها بأسلوب جدلي على أغلبه، يُشير إلى أنّ المُجتمع الذي عاش فيه الرّسول مُجتمعًا مُتعدّد المذاهب والديانات في مُعظمه

تعود لِمَ يُسمّى بالديانات الإبراهيمّية، يغلب عليها الطابع المسياني أي المؤمنون بقدوم المسيح أو المسيّا المُخلّص

وهذا المُجتمع متكوّن أو مكوّن من فئة عريضة من النّصارى التي آزرته وفئة صغيرة من اليهود وأخرى من المسيحيّين الذين بين قوسين (أشركوا) عارضوا محمّد وأتباعه وضايقوا دعوته كما تدّل الآية 82 من سورة المائدة «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة: 82)

فهناك الكثير ممّن يخلط بين المسيحيّين والنّصارى، ويعتبرهم مجموعة واحدة

فالقرآن يُكفّر المسيحيّين ولا يذكرهُم بالاسم لقولهم: “إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ” ويشركون به كذلك حسب رأيه بالقول: “إنّ لله ثلاثة أقانيم”،

كما يُمكن الاستنباط من الآية 72 و 73 من سورة المائدة «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (المائدة: 72 -73)

وأقليّة قليلة من الصابئة والمجوس وربّما حتّى الوثنيين، وهذا لا يوافق ما وصلنا عن مُجتمع قريش الوثني في مُعظمه.

فكيف يُخاطب النصّ القُرآني هذا المُجتمع الوثني بألاف الآيات الجدلية عن موسى وعن إبراهيم وعن عيسى بن مريم؟

والإشارة إلى التوراة والزبور والإنجيل وصُحف إبراهيم

لماذا لا يُحاج عبادة أصنامهم ويُبيّن عيوب طُقوسهم وصلواتهم وأناشيدهم الوثنيّة؟

فما دخل المُجتمع الوثني الذي يبُعد اللّات والعُزّى وهُبل بأنبياء بني إسرائيل والملائكة والشيطان؟

ويُكفّر المسيحيّين بقولهم على الله ما لا يقولونه، ثم يكرّر عّدة مرات أنّ النصّ القُرآني بلسان عربي مُبين، لوثنيين أو لعرب وثنيين

فهل كانت هناك كُتب أعجميّة للوثنيين العرب؟

وهذا القُرآن له ميزة بأنّه بلسان عربي أم الإشارة للكُتب الذي ذكرها في طيّاته كالتوراة والزبور بلغة عبريّة أو آراميّة، والإنجيل أو الأناجيل باللّغة اليونانيّة والسريانيّة

كان للعرب النّصارى والمسيحيّين كالغساسنة والمنادرة، والعرب الذين تهودوا وهذا القُرآن هو امتداد لها ومُصدّقًا لنُصوصها في كل تدخُّلاته

وعلى ضوء هذه المُعطيات في النصّ القُرآني، يُمكن القول بكلّ ثقة أنّه ظهر في مُجتمع يؤمن بالله الواحد في جوهره

ولا علاقة له بمُجتمع وثني كما تدّعي السير والروايات بعد أزيد من قرن ونصف من الزّمان

تُحاول شيطنة المُجتمع العربي وإظهار العصر الذي ظهر فيه القُرآن بعصر الجهالة الجهلاء والظلالة العمياء حتّى يسمو الإسلام فوق العصر المُظلم الجاهليّ الوهميّ

هروبًا من مواجهة المُجتمع التوحدي اليهودي المسيحي النّصراني بتاريخه وأفكاره ومعتقداته،

والاكتفاء بلُغة التهديد والوعيد كلُغة لإخراس كلّ المُجتمعات غير المُسلمة

نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 086

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
21 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
13 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً