التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 87 | ظهر القرآن في ثقافة سريانية.

السلام عليكم وحمة الله!

في الحلقتين الماضيتين تحدّثنا عن البيئة التي ظهر فيها القُرآن، من داخل النصّ القُرآني نفسه باعتباره الكتاب العربي الوحيد الذي يشهد على عصر ظهور الإسلام

وبحسب الكمّ الهائل الذي قدّمه هذا الكتاب العربي المُقدّس من آيات تتحدّث عن الأصنام والأوثان مُعظمها عن معبودات عصر إبراهيم الخليل والنبي إلياس والعرب من أنباط ومملكة تدمُر وغيره

في ظلّ وجود آية يتيمة في سورة النّجم، يُمكن قُبولها بإكراه على أنّها تُشير لمُجتمع قُريش وليس للأنباط أو مملكة تدمُر

في المُقابل يتحدّث النصّ القُرآني في ألاف الآيات عن بني إسرائيل وأهل الكتاب والملائكة والجنّة والنار

 واعتبار النبي موسى شخصيّة محوريّة احتلت المرتبة الأولى في ذكر أسماء الأنبياء

وطرحنا السؤال المنطقي، كيف يُخاطب القُرآن مُجتمعًا وثنيًّا في ظلّ زحمة الحديث عن هذا المُعتقد أو العقائد الإبراهيميّة؟

 وخرجنا بنتيجة تُفيد أنّ المُجتمع الذي ظهر فيه القُرآن مُجتمعًا موحّدًا بالله، في عقيدته. يتكّون من يهود ونصارى ومسيحيّين وصابئة وغيرهم من أهل التوحيد

اليوم نُقّدم نموذجًا عن هذه الثقافة التي ظهر القُرآن فيها، وأود البدء بقصّة أو بقصص القُرآن ونرى: هل تعكس وثنيّة المُجتمع الذي ظهر فيه أم ثقافة المُجتمع الموحّد بالله؟

في حلقات سابقة من (صندوق الإسلام) مع الأستاذ “حامد عبد الصمد” وفي مُحاضرات بمنتديات ثقافيّة كنت قد تحدّثت عن قصة أهل الكهف في القُرآن التي وصلت إلى محمّد وأصحابه عبر الثقافة السريانيّة اليعاقبة نسبة “لمار يعقوب السروجي”

واليوم نُريد الدخول بعُمق في هذه القصّة والبحث عن المؤثّرات المُباشرة من الثقافة السريانية على القُرآن

وبالمُناسبة مُنذ سنة تقريبًا أحد المُفكّرين المغاربة وكنت أعتبره من كبار الحركة التنويريّة عندنا في المغرب،

تحدّاني أن آتي بمخطوط واحد قبل القرن العاشر الميلادي يُظهر التأثير الثقافة السريانيّة على القُرآن، وهو بذلك مُتأكّد من أنّني لن أجد مخطوطًا واحدًا يدعم هذا الطرح

فاستغربت من هجمته بالتحدّي والتكفير، وكأننا أمام شيخ من شيوخ السلفية.

فقدّمت له ردًّا على هذا التحدي ب 3 مخطوطات باللّغة السريانيّة بأرقامها العلميّة وأماكن تواجدها تعود أحدثها للقرن السابع الميلادي أي وقت ظهور الإسلام

وقد نقلت جريدة (الشارع الثقافي) التونسيّة مشكورة هذا الردّ في مقال بعنوان (جدل فكري صاخب في المغرب حول حرب المخطوطات)

اليوم نعود لهذا الموضوع ونغوص فيه كما قُلنا لنرى التأثير المُباشر من الثقافة السريانيّة على القُرآن

كان للتّراث السرياني الوعظي والليتورجي أثرًا كبيرًا في المُجتمع الذي ظهر فيه القُرآن

 حيث يُخاطب النصّ القُرآني هذا المُجتمع بقصص يفترض أنّه أي المُجتمع القُريشي مُطّلع على تفاصيلها من خلال الفولكلور العربي اليهودي والمسيحيّ ومن بين هذه القصص قصة أهل الكهف التي جاءت في القُرآن

فأصحاب الكهف قصة لا تنتمي لأي كتاب مُقدّس قبل الإسلام

نجدها فقط في الموروث الوعظي الليتورجيي السرياني،

فإذا كان المُجتمع الذي ظهر فيه القُرآن كما هو شائع أي مُجتمعًا وثنيًّا في مكّة فكيف يُخاطب النصّ القُرآني وثنيين بقصة مسيحيّة من التراث السريانيّ؟

بخلاف لو كان هذا المُجتمع يعترف بحقيقة وجود هذه القصّة في موروثه الثّقافي

فيُقدّم القُرآن نفسه كنصّ جدليّ في حقيقة هذه القصّة وكشف خباياها التي استعصيت على رجال الدين السريان أنفسهم

وإليكم التفاصيل، أولًا: سورة الكهف، سورة مكيّة هذا باعتراف عُلماء الإسلام، تبدأ أحداث القصّة من الآية 9 «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا… إلى الآية (26)» (الكهف: 9)

إذًا هذا المُجتمع المكيّ من المُفترض أن يكون له دراية ولو سطحيّة بهذه القصّة التي جاءت في القُرآن

 لأنّه يُقدّم حقيقتها كما تُفيد الآية 13 من سورة الكهف «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى» (الكهف: 13)

وتمهيدًا للحديث عن هذه القصة كشف القُرآن عن هوية هذا المُجتمع حين قال في الآية الرابعة «وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا» (الكهف: 4)

بمعنى أنّ المُجتمع المكيّ الذي يُخاطبه ويُنذره يقول: إنّ لله ولدًا.

وليس بنات كما تُفيد التفاسير، أي أنّ هذا المُجتمع نصراني بامتياز، وذلك واضح كما قلنا في الآية 30 من سورة التوبة «…وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ…» (التوبة: 30)

نعود للقصة فالقُرآن يُصدّق بهذه القصة العجيبة، ويذكُر عفوًا عناصرها المركزيّة

ففتية أووا إلى كهف فارين بإيمانهم يطلبون الرّحمة والحماية الإلهيّة،

ثم ناموا عددًا من السنين في هذا الكهف، فبعثهم الله من جديد لكي يكونوا عبرة ومُعجزة لمن لا يُصدّق بالبعث والقُدرة الإلهيّة

ثم يُفسّر كيف لبثوا في هذا الكهف دون ضرر على أجسادهم أو رُفاتهم بحركات الشّمس التي تنحرف قليلًا نحو جنوب فتحة الكهف عند الشروق وقليلًا نحو الشمال عند الغروب

طبعًا هذه الحركة الشمسيّة اعتبرها مُعجزة إلهيّة من آيات الله كما جاء في الآية 17 «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ۗ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا» (الكهف: 17)

ومن هذه الحركة تصحبها تقليب أجسادهم ذات اليمين وذات الشمال وكأنّهم أيقاظ

ثم يأتي السياق على ذكر الحارس الذي كان يحرُس رفاتهم وهو عبارة عن كلب باسطٌ ذراعيه بالوسيط

وهنا نقف لحظة للتأمّل، أولًا في القصة الأصلية السريانيّة لا يوجد كلب.

هذا الكلب يحرُس بل ملاك الربّ، فهنا بدأ الاختلاف في القصتين القُرآنيّة والسريانيّة

فإذا قبلنا جدلًا بهذه القصة كما مُعجزة يمكن قبول وجود ملاك يحرُسهم بباب الكهف سنينًا عديدة، لكن من الصعب وجود كلب يحرسهم مئات السّنين،

فهل الكلب كان نائمًا أم يقظًا؟ فإذا كان نائمًا فكيف يمكنه أن يحرس رفاتهم؟

 وإذا كان يقظًا فمعنى أنّه عاش مئات السنين، فالمعجزة أصبحت هو بطلها وليست الفتية

لتبرير وجود كلب بينهم فالروايات الإسلاميّة تُقدّم لنا عدّة أخبار منها قول ابن عبّاس قال: “أكثر الُمفسّرين قالوا إنهم هربوا (أي الفتية) ليلًا من ملكهم فمروا براعٍ مع كلبه فتبعهم على دينهم ومعه كلبه” انتهى الاقتباس

وفي رواية أخرى عن “كعب الاحبار” وهو بالمُناسبة يهودي أسلم بعد موت الرسول

هذا اليهودي يُقدّم لنا خُرافة أخرى عن وجود هذا الكلب فقال: “مروا بكلب بنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا مرارًا، فقال لهم (أي الكلب) ما ترودون مني لا تخشوا جانبي أنا أحبّ أحباء الله فناموا حتّى أحرسكم” انتهى الاقتباس

انظروا كيف تنشأ الخُرافة لتبرير أخطاء حصلت أثناء تنقيط كلمة ( ك ل ى ه م )

نكتفي بهذا القدر ونُكمل كيف أخطأ القُرآن في قراءة كلمة كلبهم،

 ثم نُقدّم تفاصيل دقيقة عن القصّة السريانيّة،

 وسوف نرى مدى تأثيرها على النصّ القُرآني،

وإلى ذلك الوقت دُمتُم في رعاية الله وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 087

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً