أعزّائي المُتابعين أهلًا وسهلًا بكم!
رأينا في الحلقة السابقة الرابط بين الآية 4 من سورة إبراهيم ««وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ…» إلى أخره.. (إبراهيم: 4)
والآية 103 من سورة النحل «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» (النحل: 103)
ودور الرسول في تبليغ الرسالة بلسان قومه ليُبيّن لهم، ويوضح لهم ما جاء في الكتب المُقدّسة السابقة كالتوراة والتناخ والأناجيل وقصص الوعظ وأمثلة الحكمة
وهي في الأصل بلُغات أجنبية تقتضي تيسيرها بلسان عربي مُبين،
من أجل التبشير والتبليغ، كما جاء في سورة مريم الآية 97 «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا» (مريم: 97)
هذا التيسير لا شكّ يخفي تحته طبقات هذه النّصوص المُقدّسة، وقصص الوعظ والتبشير
وكأنّنا أمام طرس من الرقوق مُسح نصّهُ الأصلي، من أجل كتابة نصّ أخر فوقه.
وقد قدّمت العديد من الحلقات تخُصّ مصادر القُرآن كقصة فتية أفسس في الموروث المسيحي السريانيّ
وقُلتُ: إنها كانت موجودة بعدة لغات قبل الإسلام أهمها اللغة السريانية، ممّا أثار غضب بعض الباحثين المغاربة
ومنهم من تحدّاني أن أقدّم ولو مخطوطة واحدة ترجع لما قبل القرن العاشر الميلادي
مُعتقدًا صحابنا بأن الموروث السريانيّ هو الذي أخذ من القُرآن وليس العكس
فقدّمت له 3 مخطوطات، أحدثها تعود للقرن السابع الميلادي وقت ظهور الإسلام
وهي مخطوطة MS 156 موجودة في دير القديس مارك بالقُدس
ومخطوطة مار دين أرثوذكس تحت رقم 139 والثالثة في مكتبة الفاتيكان تحت رقم 115
وكتبتُ مقالًا حول هذا الموضوع نقلته جريدة الشارع الثقافي التونسية مشكورة
ثم قصة تكسير إبراهيم الخليل للأصنام في القُرآن كانت موجودة في الموروث اليهودي في المدراش اليهودي (مدراش ربّا)
مما أثار بعض غضب الدُّعاة المسلمين، وردوا عليّ ما قُلته بالتصغير والتحقير، في قنواتهم وصفحتهم على الفيس بوك، بما سمّوه بالردّ على الشُبهات
وذهبوا إلى أن مدراش ربّا كتب في القرن الحادي عشر الميلادي، باعتراف علماء اليهود أنفسهم حسب زعمهم وEncyclopedia اليهودية
لكن، كالعادة أخفوا نصف الحقيقة، ليوهموا المُسلم البسيط أن مدراش ربّا في قصّة إبراهيم نقل عن القُرآن وهذا من المُضحك المُبكي
وأنّ حاخامات اليهود سرقوا من القُرآن لشرح التوراة سفر التكوين في قصة أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، واتهموني بالقول: أنني قُلت بأن القُرآن سرق من المدراش
لكن ما قُلته استلهم واستوحى من مدراش ربّا، ولم أقل سرق كما زعموا
نعم أقدم المخطوطات لمدراش ربّا الآن فعلًا تعود لما بين القرن الحادي عشر الميلادي والقرن ال 12
ومن أهمّها مخطوطة توجد في مكتبة الفاتيكان Vae. ebr. 60 لمدراش ربّا سفر التكوين
ومخطوطات Vat. ebr. 30 وكذلك مخطوطة مكتبة لندن تحت رقم BL Add 27169 وهي لسفر اللاويين وغيرها
فعدم وجود لمخطوطة لما قبل القرن السابع الميلادي فترة ظهور القُرآن
لا ينفي كتابته ما بين 425 و500 ميلادية كما يشهد على ذلك المتخصصون أمثال Haoch Albeck عمل أستاذ علوم التلمود بجامعة القدس
والأستاذ Andreas Lehnadt من جامعة ماينز، والأستاذ الأمريكي الروسي Andrea A. Orlov
والقصة موجودة فيما ما يُسمّى بـ Apocalypse of Abraham وهي من قصص المدراش وليست من الأسفار المُقدّسة في التوراة
نعم تطوّرت عبر العُصور شأنها شأن التفاسير الإسلامية للقُرآن، والأحاديث النبوية
ولو رجعنا للمخطوطة والطعن في مدراش ربّا والادّعاء بأنّه أخذ عن القُرآن دون دليل
نجد على سبيل المثال كتاب (صحيح البخاري) له نفس الإشكالية أيضًا
لكن أصحاب الردود على الشُبهات يكيلون بمكيالين، فحلال على أصحّ كتاب بعد القُرآن وهو كتاب (صحيح البخاري) وحرام على (المدراش ربّا)
لأنّ مخطوطته تعود للقرنين الحادي عشر والقرن ال 12
فبحسب عقيدة المُسلمين السنة، فإنّ الأحاديث النبوية الشريفة تعود للرسول في القرن السابع الميلادي
بينما أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عاش في القرن التاسع الميلادي أي بعد قرنين من وفاة الرسول، ليُقدّم لنا أحاديث الرسول الصحيحة
وأقدم مخطوطة لكتاب (صحيح البخاري) كما ناقشتُ الموضوع مع الأستاذ “رشيد إيلال” في حلقة خاصة هي مخطوطة منجانا، Islamic Arabic 225 التي يُعتقد أنّها كتبت سنة قبل وفاة المروزي أي سنة 977 ميلادية
يعني بعد أكثر من قرن على وفاة البُخاري نفسه
والمخطوطة ليست كاملة فهي تتضمّن 52 رُقعة فقط، بينما المخطوطة الكاملة بين قوسين (الفتح الباري)
التي تعود لابن حجر العسقلاني المتوفّى في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، أي بعد أكثر من 5 قرون من وفاة البخاري
و8 قرون على وفاة الرسول، فأصحاب الردود على الشُبهات ينتبهون لإشكاليّات الخُصوم، وهذا شيء مطلوب
ولا ينتبهون لنفس الإشكاليّة عندما يتعلّق الأمر بكُتبهم،
فالتشكيك في وجود مدراش ربّا قبل الإسلام لا يقف على أرضيّة صلبة
فالعقيدة اليهودية وكتبها المُقدّسة أقدم من الإسلام
وبعض عُلماء الدين الحنيف نهلوا من كتب اليهود لتقديم تفاصيل عن الشخصيّات الكتابيّة التي لا يجدونها في الموروث الإسلاميّ، وهي ما تُسمّى عندهم بالإسرائيليات
ولم نسمع أو نقرأ عن رجال الدين اليهود أخذوا من كتب الإسلام وأدخلوها في كتبهم لتفسير التناخ
ولو كانت هذه الفرضية موجودة، لتحدّث عنها نُقّاد النصوص من اليهود أنفسهم قبل غيرهم
لوجدتها في (الهاجدوت والمدراش والتلمود) ولأعطوها أسماء يليق بها كالإسلاميات
نعم لا يُمكن إنكار تأثير بعض علماء اليهود أو تأثّر بعض علماء اليهود بالموروث الإسلامي في الجدل اللّاهوتي كالعلّامة “موسى بن ميمون”
ولكن ليس لدرجة نقل حرفي من الموروث الإسلامي كالقُرآن والحديث رغم تظاهره باعتناق الإسلام في فترة من حياته
خُلاصة القول: فالقُرآن ابن بيئته يحتوي على تراكمات وعظيّة وأحكام وقصص كانت موجودة في ذاكرة مُجتمعه غير الوثني والموحّد بالله
عبّر عنها بأساطير الأولين، فالنصّ القُرآني لم ينفي وجودها بلغة أعجميّة،
لكنّ الميزة فيها أنّها بلسان عربي مُبين، لتبليغ الرسالة التي تحمِلُها هذه التراكمات الوعظيّة
نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في حلقة أخرى فكونوا معاناً!
Download text file
You may also like
