التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 76 | النموذج الثاني من أخطاء النساخ في القرآن

أهلًا بكم أعزائي المُشاهدين!

رأينا في الحلقة الماضية كلمة طرائق في سورة المؤمنون الآية 17 «وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ» (المؤمنون: 17)

لا توافق معناها الذي وضعه عُلماء الإسلام لهذه الآية، ونظيرتها في سورة الجنّ الآية 11 «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا» (الجن: 11)

ممّا يجعل بالباحث يُفكّر في إيجاد تبرير معقول ووارد للوقوع خطأ ما سهوًا أثناء تدوين القُرآن في مرحلته ربّما الأولى للجمع

ومن بين الأخطاء الواردة التي رأينا بعض النّماذج منها، نقل حرف مكان حرف آخر شبيه به

ككلمة طور أصبحت طود، وفي هذه الحالة وجدنا حرف الرّاء كان في واقع الأمر واوًا لتشابُه الحرفين، وهذا النوع من الأخطاء وجدناه على سبيل المثال في مخطوطة سمرقند الرقعة 195

لتأكيد أصل كلمة طوابق بدلًا من طرائق في سورة المؤمنون الآية 17

ولتعزيز هذا الطرح قدّمنا الآية 15 من سورة نوح «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا» (نوح: 15)

لتكون الآية في سورة المؤمنون احتمالية قراءتها «وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طوابِق وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ» (المؤمنون: 17)

في هذه الحلق نُقدّم لكم نموذجًا آخر من أخطاء النّساخ في القُرآن،

وكمثال هذه المرّة نجده في سورة الأنفال الآية 35 «وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ» (الأنفال: 35)

يُخبرنا المصادر الإسلاميّة في تفسير هذه الآية بأنّ أهل قُريش وباقي القبائل العربية، كانوا يحجّون بيت الحرام الذي هو حسب رأيهم الحرم المكيّ طبعًا

وكانوا يقومون بطقوس وثنية أثناء حجّهم للبيت الحرام بمكّة يطوفون عُراة حول البيت بالصفير والتّصفيق

واعتبروا هذا الطّقس نوع من الصلاة عندهم، وهذا التّفسير لا يقف على أيّ مرجع يعود لتلك الفترة أي في القرن السابع الميلادي

وإنّما فقط هو اجتهاد من المُفسّرين في العصر العبّاسي، وربّما لأنّهم يحملون نظرة دونية للأصول العربية البدويّة

كون مُعظم هؤلاء المُفسّرين من أصول فارسيّة، واعتبار كل ما جاء قبل الإسلام جاهلي بدوي متخلف، يمشون حُفاة ويُصلّون عُراة،

وبالتدقيق في سياق الآية لا نجد هذا الادّعاء، فالمعنى واضح في أخر الآية، «… مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ» (الأنفال: 35)

كلمة مُكاء ومُكاءً في الأصل وفي المخطوطات القديمة “مُكًّا” بدون همز لأنّ الهمزة أضيفت لاحقًا

والمُك هو الازدحام كما جاء في (لسان العرب) لابن منظور، بمعنى المُضايقة، فتأتي الكلمة “وتصدية” من التصدّي للشيء أي منعه وليس صدى تصفيق كما جاء التّفاسير

ولحسم هذه النقطة نجد الآية التي قبلها تُفيد التصدّي وليس التّصفيق، تقول الآية: «وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ – وهحط شرطة تحت كلمة ويصدون – عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ …» (الأنفال : 34)

فالمعنى واضح جدًا، ولكن لم يكتفِ المُفسّرون بتشويه صورة العرب قبل الإسلام،

 لكنّهم تصدوا كذلك لفكر المتصوّفة لم يحمل فكرهم من تسامُح وزهد وتصوّف،

 بعيدًا كل البعد عن القتال والغزوات المصدر الرئيسي لتوسّع نُفوذ الحكّام الجُدد ونهب ثروات المُجتمعات المُستعمرة.

وحرّموا طُرق الزّهد والتصوّف واعتبروها بقايا من الموروث الجاهلي،

حيث نجد في (تفسير القرطبي) على سبيل المثال: “عن قتادة: المُكاء ضرب بالأيدي، والتصدية هي الصياح، وعلى التفسيرين – يقول القُرطبي- ففيه ردّ على الجُهّال من الصوفيّة الذين يرقصون ويصفّقون ويصعقون. وذلك كلّه مُنكر يتنزّه عن مثله العُقلاء، ويتشبّه فاعله بالمُشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت.”

إذاً، السؤال المطروح، ما معنى الآية 35 من سورة الأنفال في ظلّ علم فقه اللّغة المُقارن، وعلم الخطاطة؟

أولًا: نُلاحظ في المخطوطات القديمة رسم الكلمة “صلىهم” جاءت بنبرة بعد اللام،

 وليس بألاف المدّ كما يتّضح في مخطوطة مارسيل 18 الرقعة الأولى، وكذلك في مخطوطة لندن MS Or. 2156 الرقعة 8 فيرسو

فيُمكن قراءة هذه الكلمة على عدّة قراءات مُحتملة منها (صليهم- صلبهم- صلاتهم كما جاءت في المصاحف الحالية، وغيرها من القراءات.

الإشكال ههنا مبني على قراءة غير موفّقة من القراء، حيث قرأوها صلاتهم رغم وجود كلمة كان بالتذكير،

 وليس كانت صلاتهم كما يمكن فهما في مجموعة من الآيات على سبيل المثال (البقرة: 103) و(العنكبوت: 45)

فالقراءة الأكثر ترجيحًا بحسب علم الخطاطة في المخطوطات القديمة، هي صليهم بالياء، وهذه الكلمة كانت بحسب علم الفيلولوجيا وشرح أستاذنا الدكتور “كرستوفر لوكسمبرج” تعني الترقّب ونصب الكمين للعدوّ

وبالرجوع إلى اللغة الآراميّة والسريانيّة التي كانت شائعة في تلك الزمان كاللينجوا فرانكا

نجد الكلمة صليا بمعنى نصب شركًا أو أكمن، رصد، راقب، كما جاء في قاموس (منّا العربي الكلداني)

إذًا الآية تُفيد أنّ هؤلاء الذين يصدّون المؤمنين عن المسجد الحرام ما كان صليهم أي ترقّبهم ورصدهُم عن البيت إلّا مُكًا بدون همز طبعًا والمُكّ كما قُلنا: هو الازدحام والمضايقة كما رأينا في (لسان العرب) لابن منظور، وذلك من أجل التصدية

إذاً، المعنى الإجمالي لسياق الحديث في هذه الآية هو أنّ جماعة تترقّب وترصُد وتتصدّى لجماعة أخرى مؤمنة في المسجد الحرام، ولا تتركهم في سلام من أجل العبادة والقيام بطقوس الحجّ

فكما رأينا مُحاولة المُفسّرين تشويه صورة العرب قبل الإسلام واختيار هذه الآية وتفسيرهم المُجحف في حقّ هؤلاء العرب

رغم أنّ سياق سورة الأنفال لا تتحدّث عن قُريش والمُجتمع العربيّ، بل تتحدّث عن أسباب الصراع الذي قام بين البيزنطيين من جهة ومن جهة أخرى التحالُف العربيّ اليهوديّ

 ومطالبتهم الامبراطور هرقل العظيم بإرث جدهم إبراهيم أرض كنعان بخصوص الأرض المقدّسة الفلسطينية

لتوضيح هذه النقطة، كونوا معنا في الحلقة القادمة وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 076

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
12 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً