التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 96 | نظريات حول خلط الأسماء في القرآن

أهلًا وسهلًا بكم أعزائي المشاهدين!

أتممنا في الحلقة الماضية موضوع أصحاب الكهف الجدلية القائمة بين النص القُرآني والتراث المسيحيّ السريانيّ في إطار دراسة عبر سلسلة تخُصّ البيئة التي ظهر فيها القُرآن

وبما أنّ الدارسة ترتكز على كون هذا القُرآن، وثيقة أدبية وموروث عربي وصلنا من الأسلاف

فلا شكّ أن يكون قد تأثر بمُحيطه التاريخي والجغرافي

طبعًا، مفهوم التأثير مرفوض عند كلّ المُسلمين، باعتباره كلام الله المنزل على عبده، ورسوله محمّد بن عبد الله

وبالتالي، لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن يكون خاضعًا لتأثيرًات بشريّة، تحكُمها العادات والتقاليد والأديان التي سبقته.

بل بالعكس فهو النصّ الإلهيّ الذي يُقدّم حقائق الأمور ويُجادلها في عُقر جوهرها.

لكنّ الباحث الرصين، لا يُمكن أن يُناقش الغيبيات، وكلّ ما هو ميتافيزيقيّ يبقى دائمًا في إطار ما لا يُمكن إخضاعه للتحليل أو التجربة.

وعليه، يُمكننا فحص النصّ القُرآني من الناحية الأدبية والثقافية، أو الثقافة التي ظهر فيها بوسائل علمية حديثة أثبتت فعاليتها في كتب مُقدّسة سابقة

فالقُرآن كما رأينا في عدّة حلقات سابقة ابن بيئته، وليس غريبًا على مُجتمعه.

وبما أنّ المجتمع الذي ظهر فيه هذا النصّ مُجتمعًا موحّدًا بالله، يعرف التوراة والأناجيل والكتب المُقدّسة الأخرى.

فبالأولى مُقارنته بالثقافة التي ظهر فيها، وليس بعيدًا عن التُراث المسيحيّ كما رأينا في قصة أهل الكهف السريانيّة،

وفي هذا الموضوع بعث لي مشاهد كريم على الخاص اسمه “جبّار بن يحي” بسؤال

يقول: هل هناك تفسير منطقي لورود ذكر مريم في القُرآن على أنّها أخت هارون؟

طبعًا، الأستاذ جبّار طرح هذا السؤال من باب ما جاء في سورة مريم الآية 28

«يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» (مريم: 28)

وكذلك في سورة التحريم الآية 12 «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا …» (التحريم: 12) إلى أخره

وكذلك في سورة آل عمران الآية 35 «إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (آل عمران: 35)

وبما أنّ هارون أخو مريم من ذُرية عمران، أو عمرام باللغة العبريّة، كما جاء في سفر الخروج الإصحاح 6 العدد 20 « وَأَخَذَ عَمْرَامُ يُوكَابَدَ عَمَّتَهُ زَوْجَةً لَهُ. فَوَلَدَتْ لَهُ هَارُونَ وَمُوسَى. وَكَانَتْ سِنُو حَيَاةِ عَمْرَامَ مِئَةً وَسَبْعًا وَثَلاَثِينَ سَنَةً.» (خروج 6: 20)

وعمرام بالميم في أخر الكلمة لها معنى كما رأينا في إحدى الحلقات عن إبراهيم، كلمة أبرام معناها الأب الرفيع، أو الأب العالي.

أصبح فيما بعد أبراهام معناها أبو الجمهور، بينما كلمة عمرام مشتقّة من كلمتين

(عم) معناها شعب، و(رام) معناها مُرتفع، وبالتالي يكون المعنى الإجمالي، شعب عظيم

لكن السؤال المطروح ما دخل عمران، أو عمرام هذا بمريم أم المسيح؟

والفرق بين مريم أخت هارون ومريم بنت عمرام، أكتر من 1200 من السنين بحسب التقديرات اليهوديّة

مُعظم المُستشرقين ذهبوا إلى أنّ هناك خلط وقع في نقل الشخصيتين مريم أم المسيح ومريم أخت موسى وهارون

وقد سبقهم في هذا الاستنتاج رجال الدين المسيحي في العصر العبّاسي أيام تدوين تفسيرات القُرآن

فحاول الفُقهاء حلّ هذه المُعضلة بتقديم فرضيات مُختلفة مُحاولين ربطها بالمنطق أو بما جاءت به الروايات

فمنهم من قال “كالسودي” على سبيل المثال: إنّها من ذرية هارون أخو موسى، تقول يا أخا بني فلان، أو للتميمي تقول يا أخا تميم وللمُضري يا أخا مضر،

ومنهم من قال سُمّيت بذلك لرجل صالح من بني إسرائيل كان اسمه هارون وليس أخو موسى

ومنهم من جعل هارون إنسانًا عرف بفساد أخلاقه وانحطاطه، كما ذكر “السعالبي”

ومنهم من أخرج أحاديثًا ونسبها لصحابي اسمه “المُغيرة بن شُعبه”، حيث يقول الحديث كما جاء في تفسير الطبري

قال أي شُعبه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أهل نجران فقالوا لي: ألستم تقرأون بين قوسين (يا أخت هرون) قلتُ: بلى. وقد علمتم ما كان بين عيسى وموسى،

فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ألا أخبرتهم أنّهم كانوا يُسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم؟

وفي رواية أخرى عن المُغيرة كذلك قال: أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حوائجه إلى أهل نجران، فاقلوا: أليس نبيُّك يزعم أنّ هارون أخو مريم هو أخو موسى؟ فلم أدري ما أردّ عليهم، حتى رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ له ذلك، فال: إنّهم كانوا يُسمّون بأسمائهم من كان قبلهم.

إذًا، كما نرى التخبّط والاختلاف في حلّ المُعضلة، ولكن هناك بعض الباحثين

كالأستاذ Guillaume Dye مِن مَنْ استبعد احتمالية خلط الأسماء كما يظهر من خلال هذه الآيات.

لأنّ صاحب القُرآن من غير المُحتمل أن يُخلط هذا الخلط الرهيب، نظرًا لمعرفته الجيدة بالجدليات اللاهوتيّة الصعبة في عصره

فما بالكم بهذه المعلومات البسيطة التي يعرفها حتّى الإنسان المُتديّن البسيط وليس رجل دين مُتمرّس في خدمته

فوجد الدكتور Guillaume Dye متوازيات موسى وهارون وأختهما مريم من جهة

والمسيح يسوع عيسى بن مريم ويوحنا المعمدان يحي بن زكريا ومريم أم المسيح من جهة أخرى

فربط بين الأسماء كإشارة للتقارُب الرمزي بين مُعجزة ولادة المسيحي من عذراء، ويوحنا المعمدان من وأليصبات زوجة النبي زكريا العاقر، بحسب القُرآن في سورة آل عمران الآية 40 « قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (آل عمران: 40)

وإنجيل لوقا الإصحاح الأول العدد 36 «وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا» (لوقا 1: 36).

وهم أقرباء من عائلة كُبرى واحدة، فاقترح الدكتور Guillaume عملية استبدال الأسماء من يواقيم والد مريم أم المسيح بين قوسين (عمران) بوالد هارون عمرام وهارون بيوحنا المعمدان

وموسى بالمسيح عيسى ومريم أخت هارون بمريم بنت يواقيم بين قوسين (بنت عمران)

وقبل أنّ نرى أهميّة هذا الطرح من عدمه، نقف هنا لتوضيح مسألة قد تكون عثرة لبعض الأحباء الذين يردّون علينا فيما يخُصّ اسم والد السيدة مريم أم المسيح وهو يواقيم

قد يقول قائل: من أن أتيت، أو من أين أتى الأستاذ Guillaume بهذا الاسم؟

أليس من إنجيل يعقوب المنحول الذي لا تقبله الكنيسة المسيحيّة كإنجيل رسمي كباقي الأناجيل الأربعة؟

الجواب نعم، نحن لسنا بصدد تقديم هذا المصدر على أساس صحته أو عدم صحته،

ولكن من باب أنّ هذا المصدر من كتب الأبوكريفا التي كانت موجودة قبل ظهور الإسلام

أتمنّى أن تكون الصورة قد وضحت، أو توضّحت!

نعود لطرح الأستاذ Guillaume مسألة استبدال ليست مُقنعة بحسب الكثير من الباحثين، ولهذا يمكن التنقيب السرياني المسيحيّ لعلّنا نجد حلاًّ لهذه المُعضلة

وبالفعل قدّم لنا الأنثروبولوجي الألماني Joseph Henninger في القرن العشرين كتاب أو كتبات بعض آباء الكنيسة السريان

كالراهب السرياني “أفرهات أو فرهاد” عند الفرس، وكذلك الأسف Gergory of Nyssa في القرن الرابع الميلادي

وكلّهما معروفان من قبل السريان،

ففقي وعظهما غالبًا ما قارنا بين المريمتين،

ولتكملة الموضوع انتظرونا في الحلقة المقبلة وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 096

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى
أهلًا بالمُتابعين الأفاضل! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب [...]
20 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 126 | البقرة الحمراء وبناء معبد اليهود في القدس
مرحبًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن البقرة الحمراء [...]
13 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 125 | بقرة موسى صفراء أم حمراء؟
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! مازلنا في إطار الردّ على تعليق الحلقة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 124 | إشكالية نص القرآن (الرد على أحد التعليقات)
أهلًا وسهلًا بكم مرّة أخرى أعزائي الكرام! في الحلقات الماضية، كنا [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 123 | محمد لم يأت بدين جديد
أهلًا بكُم أحِبائي الكِرام. في الحلقة الماضية كنّا تحدّثنا عن كُتب [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 122 | القرآن هو أجبية وقريان العرب
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! لا زلنا ضمن سلسلة دراسة أصول القُرآن، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 121 | هل يجيد الرسول القراءة والكتابة؟
أهلًا بكم مُشاهديّ الكرام! بعد سلسلة من الحلقات حول القراءات [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن
تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام! كنّا قد تكلّمنا في الحلقات [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 119 | أقدم طبعة للمصحف
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن ظهور القُرآن [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 118 | فوضى القراءات المختلفة في للقرآن
تحية محبّة وأخوّة لكُم مُتابعينا الكرام! في الماضية كنّا بدأنا الحديث [...]
5 views

Page 1 of 13

اترك تعليقاً