التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 127 | سر ذبح بقرة موسى

أهلًا بالمُتابعين الأفاضل!

لا زلنا ضمن سلسلة دراسة القُرآن، ككتاب الفُصول والقراءات،

والذي استمد أصله من الكُتب المُقدّسة السابقة له، كالتوراة والزبور والإنجيل وكُتب اليهود كالمدراش والميشناة، وكُتب الأبوكريفا وغيرها من المصادر

ورأينا في الحلقتين السابقتين القراءة الفيلولوجيّة لكلمة (شية) في سورة البقرة الآية 71، حيث يقول عنها الدكتور كرستوفر لوكسمبرج (لا شُبه فيها) جمع شُبهة

ثمّ تحدّثنا عن الاختلاف بين التوراة والقُرآن فيما يخُصّ لون البقرة، هل هو أحمر (بارا أودما)، «قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّٰظِرِينَ»

ورأينا أحد كبار الحاخامات في بداية القرن العاشر الميلادي هو الحاخام سعدايا بن جاؤون بن يوسف الفيومي، قد ترجم كلمة أدوما بين قوسين (حمراء) في سفر العدد الإصحاح 19 العدد 2 إلى كلمة صفراء باللغة العربيّة

وقولنا: أنّ هذا الحاخام لا بد وأنّه يُفرّق بين اللون الأحمر والأصفر في اللغتين العربيّة والعبريّة

وتأرجحت كلمة صفراء بين الصُفرة والميل نحو السواد، فاللون الأحمر في القُرآن جاء في سورة فاطر الآية 27 «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ» (فاطر: 27)

أمّا اللون الأصفر، فقد جاء في سورة الحديد الآية 20 «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا …» إلى أخره. (الحديد: 20)، كذلك سورة الزمر الآية 21

فأصل كلمة صفراء أو صفرا من اللغة الآراميّة تعني: صباح مُشرق، ويكون بين الصُفرة والحمرة

وبما أنّ اللون البُنيّ لم يكن موجودًا كاصطلاح عربي، إلّا في بداية القرن التاسع الهجري،

إذًا سواء كان اللون الأحمر في التوراة أو الأصفر في القُرآن فهما دلالة على اللون التُرابي، وهذه التحليلات تعتمد كما قُلنا على علم الفيلولوجيا

ويتّضح المعنى بالرجوع إلى الكُتب السابقة للإسلام،

ومن بين الدلائل التي تؤكّده ضرورة الرجوع إلى هذه الكُتب، هو وجود بعض المقاطع الغامضة في القُرآن التي يتّضح معناها من خلال المُناقشات التي كانت تُقام في المجالس العلميّة عند اليهود، بيت ميدراش، أو ما يُسمّى حاليًا بالياشيفا.

وما نُريد الإشارة إليه هو المقطع الموجود في سورة البقرة الآية 67 «وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» (البقرة: 67)

فعبارة «وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» (البقرة: 67)

، بمعنى أتسخر منّا؟!، فقد جاء فيها غموض، لأنّ الآية التي قبلها تتحدّث عن الذين اعتدوا من بني إسرائيل يوم السبت

ثم ينتقل الحديث فجأة لقول موسى بأن يذبحوا البقرة

والسؤال المطروح، لماذا يجب ذبح البقرة؟ ثمّ لماذا الردّ على موسى بسؤال «وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» (البقرة: 67)

لفهم هذه المُعضلة، رجع معظم أهل التفاسير من علماء الإسلام إلى الآية التي كنا في صددها أو في صدد الحديث عنها في الحلقتين السابقتين وهي الآية 72

وكما قال الطبري: “الحديث عن أمر الله تعالى ذكره بذح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه”

لمعرفة من قتله، وهذا التأويل غير مُقنع لأنّ موسى قام بالعديد بالمُعجزات أمام أعينهم بحسب التوراة والقُرآن،

وبالتالي: الكشف عن القاتل ليس بالأمر الذي يجعل بني إسرائيل يظنّون بأنّ موسى يسخر منهم

لكن بالرجوع إلى المجالس العلمية لليهود (بيت ميدراش) فيما يخُصّ التطهير من النجاسة، في حالة لمس ميّت، فكليف ببقرة ميّتة أن تقوم بتطهير من لمس ميّتًا؟

فعلًا إنّه شيء مُحيّر بالنسبة للنّقاش الذي يدور حول التطهير برماد البقرة الحمراء

في مدارس الياشيفا تشهد العديد المدراشيم جمع مدراش وهي سلسلة من مجموعة التعليقات على التناخ

ويُحاول (مدراش تنحوما) حلّ هذه الإشكاليّة من خلال الردّ على السؤال في سفر أيوب الإصحاح 14 العدد 4 «مَنْ يُخْرِجُ الطَّاهِرَ مِنَ النَّجِسِ؟ لاَ أَحَدٌ!» (أيوب 14: 4)

غير الله الذي أخرج من صُلب “تارح” إبراهيم النبي وكذلك في القُرآن مُلقّب بآزر، كان يعبد الأصنام ويصنعها كما جاء في مدراش ربّا، وفي سورة الأنعام الآية 74 «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» (الأنعام: 74)

بمعنى أنّ شخصًا نجسًا بعبادة الأصنام، يلد شخصًا طاهرًا بإيمانه بالله

وكذلك يضيف مدراش تنحوما أنّ الله أخرج من صُلب الملك آحاز المُنافق بحسب النبي إشعياء، الملك حزقيا الرجل التقيّ

وهكذا يحلّ هذه الإشكاليّة، وهذا ما نجده في القُرآن، سورة الروم الآية 19

«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ» (الروم: 19)

وبالتالي: فضرب الميّت، ببعض البقرة الصفراء في الآية 73 من سورة البقرة «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (البقرة: 73)

هي رمزيّة كرمزيّة الآية التي بعدها «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ …» إلى أخر (البقرة: 74)

بمعنى أنّ الحجارة الميّتة القاسية يُمكن خروج الماء الحيّ منها،

وبالضبط كما فعل موسى عندما ضرب الحجر لإخراج الماء في سفر العدد الإصحاح 20 العدد 11 «وَرَفَعَ مُوسَى يَدَهُ وَضَرَبَ الصَّخْرَةَ بِعَصَاهُ مَرَّتَيْنِ، فَخَرَجَ مَاءٌ غَزِيرٌ، فَشَرِبَتِ الْجَمَاعَةُ وَمَوَاشِيهَا.» (عدد 20: 11)

كما قولنا في الحلقة الماضية فقسوة قلوب بني إسرائيل تحدّث عنها مدراش ربّا، مُشيرًا إلى سفر حزقيال الإصحاح 36 العدد 26 «وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ.» (حزقيال 36: 26)

وهذا الإصحاح يُقدّم لنا خروج الحياة من الموت في العدد 34 «وَتُفْلَحُ الأَرْضُ الْخَرِبَةُ عِوَضًا عَنْ كَوْنِهَا خَرِبَةً أَمَامَ عَيْنَيْ كُلِّ عَابِرٍ.» (عدد 36: 34)

وهذا العابر هو الذي أشار له القُرآن أيضًا في سورة البقرة، الآية 259 «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ…» إلى أخره (البقرة: 259)

ولصعوبة مفهوم طقس البقرة الحمراء في التوراة، يُشير كلّ من مدراش ربا، ومدراش تنحوما، إلى أنّ سليمان بن داود رغم حكمته العظيمة إلّا أنّه لم يستطع فهم منطق طقس البقرة الحمراء

فمنطق طقس البقرة الحمراء بحسب المدراش هو أنّ الله يُخرِج الطاهر من النّجس كما رأينا في مثال إبراهيم المؤمن الطاهر يخرج من صُلب تارح أو آزر النّجس بحسب عبادة الأصنام

أمّا منطق القُرآن لطقس البقرة الصفراء، فهو إخراج الله الحيّ من الميّت.

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في حلقة مُقبلة، فكونوا معنا!


Download text file

Early History of Islam 127

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 116 | أصل الأحرف السبعة في القرآن
أهلًا بالمُتابعين الكرام! بعد ما قدّمته في الثلاث الحلقات الأخيرة عن [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 115 | فصول الكتاب المقدس في القرآن
أهلًا بكم أحبّائي المُتابعين! في الحلقتين السابقتين، تحدّثنا عن [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 114 | الكلمات الليتورجيا في القرآن
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية وجدنا أنّ القُرآن في مرحلة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 113 | القرآن كتاب الليتورجيا للصلوات
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في هذه الحلقة والحلقة القادمة سوف نُحاول [...]
6 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 112 | تهجير الرسول من أرض العراق
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! في الحلقة الماضية، وفي إطار سلسلة من الحلقات [...]
6 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 111 | شواهد على مكة بالعراق
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن الفق ما بين [...]
3 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 110 | كعبة القدس وحرم مكّة
أهلًا بالمُتابعين الكرام! وصلني سؤال من أحد المُتابعين من سوريا يقول [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 109 | مكة عند المؤرخين القدماء
أهلًا بالأحبّاء الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن إشكالية مكّة، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 108 | جغرافية مكة بين التاريخ والأسطورة
أهلًا بالمُتابعين الأحبّاء! سبق وقدّمت العديد من اللقاءات والحلقات على [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 107 | مَلَكَة اليمين (الجزءالثاني)
أهلًا بالجُمهور الكريم! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن موضوع ملكت [...]
1 views

Page 2 of 13

اترك تعليقاً