التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 120 | إشكالية التنقيط في القرآن

تحيّة محبّة واحترام لكُم مُتابعينا الكرام!

كنّا قد تكلّمنا في الحلقات الماضية عن موضوع القراءات المُختلفة الرسميّة، ومنها الشاذّة كذلك، وكيف ظهرت وتطوّرت مع القُرون اللاحقة

فطلب مني بعض المُتابعين الكرام، أن نُقدّم بع النماذج من هذه القراءات، وكيف جاءت مُعتمدة على رسم المصحف، أو ما يُسمّى برسم بعثمان

فاستجابة لطلبكم، سوف استعين بصور بعض المخطوطات، حتى يتّضح لنا الإشكال،

ونعرف كيف نشأت هذه القراءات، ثم نُحاول قدر المُستطاع الالتزام بقراءات المراجع التي قدّمت لنا الفرق في الاختلاف لهذه القراءات

وللتذكير فقط، فالمصاحف الأولى للقُرآن، كانت خالية من التنقيط، والتشكيل والهمزة وألف المدّ في الكثير من الأحيان

وقد اعتقد بعض الشيوخ أنّ هذا الخلو لأجل إعطاء المجال لتوسيع القراءات التي جاء بها القُرآن

لكن هذه النظريّة ليست صحيحة كما قُلنا، لأنّنا عثرنا على برديات تعود لأواخر القرن السابع الميلادي، تخلو من التنقيط والتشكيل رغم أنها تتحدّث عن أمور دنيوية بسيطة كعقود، إيصالات، تسليم بعض البضائع

ثمّ نُذكّركم أعزّائي الكرام بالنقوش العربية قبل الإسلام التي كانت خالية من التنقيط والتشكيل والهمز،

وبالتالي فإنّ خلوّ المصاحف الأولى من هذه النُقط، تسبّب في ظهور هذه القراءات وليس العكس كما يُعتقد

السؤال الأول في إطار معرفة قراءة النصّ، ما هي المعايير الأساسيّة لوضع النُقط على الحروف لقرأتها؟

الجواب على هذا السؤال يتلخّص في كون النصّ يخضع لسياق منطقيّ يُسهّل على القارئ وضع هذه النُقط والحركات الإعرابية

فبعدما اتفق النُحّات وعلماء القراءات في تحديد عدد النُقط فوق أو تحت الأحرف المُعجمة، إلى أنّه في حالة واحدة بقيت مُعلقّة بين الشرق الإسلامي وغربه

ففي شمال إفريقيا عندنا في المغرب، بقي الشيوخ يضعون حرف الفاء نقطة واحدة تحت الحرف، والقاف بنقطة واحدة فوقه،

وهذه الظاهرة لا زالت موجودة إلى الآن في المدارس العتيقة، فسياق النصّ كما قُلنا، هو الذي يُحدّد القراءة الصحيحة

فعلى سبيل المثال: كلمة بسرم (أ ل ر ح ى م) هل تقرأ الرجيم أم الرحيم؟ الجواب يكمن فيما قبلها من كلمات

فلو كانت كلمة الله قبلها تُصبح القراءة الله الرحيم، أو بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا إذا كانت كلمة الشيطان قبلها، فتُقرأ الرجيم، أي الشيطان الرجيم، وهكذا

فهذه هي القاعدة العامّة، وهي نفس الطريقة التي يستخدمها الباحثون في مجال إعادة تنقيط النصّ بحسب السياق وعلم الفيلولوجيا

كنّا قدّمنا في الحلقة 116 مُشادة حصلت بن عُمر بن الخطّاب وهشام بن حكيم في حديث صحيح،

“سَمِعْتُ هِشَامَ بنَ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ في حَيَاةِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هو يَقْرَأُ علَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ في الصَّلَاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ برِدَائِهِ، فَقُلتُ: مَن أقْرَأَكَ هذِه السُّورَةَ الَّتي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟! قالَ: أقْرَأَنِيهَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقُلتُ: كَذَبْتَ؛ فإنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدْ أقْرَأَنِيهَا علَى غيرِ ما قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ به أقُودُهُ إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقُلتُ: إنِّي سَمِعْتُ هذا يَقْرَأُ بسُورَةِ الفُرْقَانِ علَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا! فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرْسِلْهُ، اقْرَأْ يا هِشَامُ، فَقَرَأَ عليه القِرَاءَةَ الَّتي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَذلكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قالَ: اقْرَأْ يا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتي أقْرَأَنِي، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَذلكَ أُنْزِلَتْ؛ إنَّ هذا القُرْآنَ أُنْزِلَ علَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا ما تَيَسَّرَ منه.”

حلّ إشكاله الرسول بما يُسمّى الأحرف السبعة

وهذا النوع من القراءات يؤدّي لتغيير الرسم، لكن بنفس المعنى على الأرجح

وهذا راجع لسببين مُحتملين، الأوّل: ترجمة النصّ وتيسيره من لُغته الأصلية كالعبريّة واليونانيّة إلى لسان عربي مُبين

أو الاحتمال الثاني: هو لتعدّد مصادر النصّ الواحد،

فلو أخذنا مثلًا على ذلك في قصة موسى والخضر، تقول الآية 77 من سورة الكهف: «فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا…» (الكهف: 77)

قرأها عُمر بن الخطاب بدلًا من فأبوا من أبى بمعنى أمتنع، قرأها فأتوا. فكيلا السياقين مقبول إلى أنّ الفرق في المعنى واضح

ممّا يُفيد تعدّد المصادر وليس مُجرّد ترجمات وتسهيل للنصّ،

نفس الإشكال وقع في سورة آل عمران الآية 148 «فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (آل عمران: 148)

فكلمة فآتاهم قد جاءت قراءتها بالثاء، فأثابهم من الله الثواب كما جاء في باقي الآية

كذلك في سورة الفتح الآية 18 «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا» (الفتح: 18)

فبدلًا من وأثابهم، جاءت بالتاء وسقوط الباء، وأتاهم فتحًا قريبًا

ننظُر الآن إلى كيفيّة تعدّد القراءات للرسم الواحد، على سبيل المثال في قصّة موسى سورة الأحزاب الآية 69 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» (الأحزاب: 69)

جاء في (مُعجم القراءات القُرآنيّة) وكان عبد الله وجيهًا، بالباء بدلًا من النون

وجاء كذلك وكان عبدًا لله وجيهًا، كذلك في سورة التوبة الآية 114 «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ…»  إلى أخره (التوبة: 114)

في (مُعجم القراءات) وعدها أباه، هذه أمثلة عن مسألة التنقيط، لكن هناك إشكاليّة أخرى في رسم ألف المدّ من عدمه

فعلى سبيل المثال: جاء في سورة آل عمران الآية 146 «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ …» إلى أخره (آل عمران: 146)

بدلًا من قاتل أي حارب معه ربيّون، وربّما لم يموتوا، جاءت قراءة أخرى قُتلَ، أي هؤلاء الربيّون ماتوا في الحرب

إذًا، المعنى تغيّر، والإشكاليّة وكذلك عندما يتعلّق الموضوع بالتشريع بالنسبة للمُفطر في رمضان

بسبب سفر أو مرض، وذلك في سورة البقرة الآية 184 «أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ…» إلى أخره (البقرة: 184)

إذًا الفدية هنا هي إطعام مسكين واحد، لكن هناك قراءة أخرى جاءت في رواية ورش عن نافع

فدية طعام مساكين بالجمع، يعني الفدية لثلاث مساكين على الأقل بدلًا من مسكين واحد فقط

وهناك إشكاليّة أخرى بسبب تدخُل المُفسّرين، إذ أن بعضهم يضيف أداة النفي لا قبل كلمة (يطيقونه)

ليتحوّل التشريع من شخص قادر على الصيام إلى شخص لا يُطيقه، كالعجوز أو بسبب مرض مزمن

كما هو الحال في (تفسير الجلالين) على سبيل المثال

ويبقى التشريع القُرآني غامضًا بين القراءات المُختلفة والتفسير في بعض الأحيان

فمن يقول أنّ الآية تحُثّ على إطعام أكثر من مسكين كما جاء «…فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ…» (البقرة: 184)

وبالتالي لا تعارُض في التشريع، يكون الرد التطوّع بإطعام مسكين أو أكثر بصفة عامّة كعمل الخير، وليس كفدية

والدليل هو أخر الآية التي تقول: «… وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (البقرة: 184)

يعني قُدرة الاستطاعة موجودة، ويجب الإشارة هنا، إلى أنّ هذه التدخُّلات جاءت في زمن غير زمن الرسول

للمزيد من المعلومات فيما يخُصّ موضوع القراءات المُختلفة تجدوه في كتاب (مخطوطات القُرآن، مدخل لدراسة المخطوطات القديمة)

نشرته مؤسّسة Water Life Publishing على موقعها الإلكتروني أو على صفحة أمازون

نكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في حلقة مُقبلة، فكونوا معنا!


Download text file

Early History of Islam 120

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 116 | أصل الأحرف السبعة في القرآن
أهلًا بالمُتابعين الكرام! بعد ما قدّمته في الثلاث الحلقات الأخيرة عن [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 115 | فصول الكتاب المقدس في القرآن
أهلًا بكم أحبّائي المُتابعين! في الحلقتين السابقتين، تحدّثنا عن [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 114 | الكلمات الليتورجيا في القرآن
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية وجدنا أنّ القُرآن في مرحلة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 113 | القرآن كتاب الليتورجيا للصلوات
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في هذه الحلقة والحلقة القادمة سوف نُحاول [...]
6 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 112 | تهجير الرسول من أرض العراق
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! في الحلقة الماضية، وفي إطار سلسلة من الحلقات [...]
7 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 111 | شواهد على مكة بالعراق
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن الفق ما بين [...]
3 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 110 | كعبة القدس وحرم مكّة
أهلًا بالمُتابعين الكرام! وصلني سؤال من أحد المُتابعين من سوريا يقول [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 109 | مكة عند المؤرخين القدماء
أهلًا بالأحبّاء الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن إشكالية مكّة، [...]
16 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 108 | جغرافية مكة بين التاريخ والأسطورة
أهلًا بالمُتابعين الأحبّاء! سبق وقدّمت العديد من اللقاءات والحلقات على [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 107 | مَلَكَة اليمين (الجزءالثاني)
أهلًا بالجُمهور الكريم! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن موضوع ملكت [...]
1 views

Page 2 of 13

اترك تعليقاً