أهلًا بكم أحبائي الكرام!
اليوم نُتابع الحديث عن موضوع كنّا قد بدأناه وهو الاختلاف الفكر العقائدي بين السنة والشيعة
فكما رأينا عند فرقة القرامطة فإنّها لا تُقدّس مّكة، ولا أيام التشريق أيام الحجّ، ولا تعتبر الحُجّاج ضيوف الرحمن كما يتبيّن من هجومهم على مكّة سنة عفوًا 317 هجرية
ورأينا كذلك فرقة شيعيّة إسماعلية أخرى لا زالت بيننا وهي فرقة الدروز الموحدين، واختلاف طقوسهم وعقيدتهم عن باقي المُسلمين
وصلني سؤال من أحد المُتتبعين يقول: الدولة الفاطمية دولة شيعيّة قويّة، لماذا لم تكشف المستور مما أخفاه أهل السنّة؟
الجواب، الدولة الفاطميّة صحيح أنّها شيعيّة، كانت تمسك بزمام الأمور على أرضها،
لكن لا ننسى أنّ مُعظم المسلمين كانوا سنّة، خاصة في ظلّ وجود الأمويين في الأندلس والعبّاسيين في الشرق
في المُقابل شجّعت الدولة الفاطميّة على وجود مثل الفُرق الشيعيّة التي ذكرناها
فمنذ ظهور الإسلام وإلى أواخر القرن الثالث الهجري والشيعة يتعرّضون لإبادة ومؤامرات
وقد حاولت الدولة الأموية والعبّاسيّة أن تحُدّ وتمنع من نفوذ أئمة أهل البيت وارتباط الناس بهم إلى ظهرت الدولة الفاطميّة في شمال أفريقيا سنة 909 ميلادية
ممّا شجّع كذلك على ظهور الدولة الحمدانيّة سنة 930 ميلاديّة، وهي إمارة شيعية في الموصل أسّساها “أبو الحسن ابن أبي هجاء” الشهير بناصر الدولة
وامتدت هذه الإمارة إلى سنة 1003 ميلاديّة في حلب وسائر الشام وأقسام من جنوب الأناضول
ولنقف على اختلاف الشديد بين الفُرق الإسلاميّة الكُبرى نُقدّم لكم نموذجًا من هذه الفترة أي القرن الرابع الهجري
ونختار لكم مخطوطة التي هي برقم علمي 1450 Arabe موجودة بالمكتبة الوطنية الفرنسية بباريس
وهي نسخة لكتاب (الأصيفر) تصنيف الشيخ العلامة “أبو عبد الله بن شُعبة الحرّاني” وهو أحد شيوخ الشيعة
يقول في الرقعة( 3 أ) : “ومن يهديه الله فهو المُهتد، ولا أبين ممّا عليه الأمة من إخواننا وفقّهم الله تعالى من الاختلاف والانحراف وقلّة الأصناف، وكثرة الدّعاوى والمبتدي تعسُّفًا من الأخبار والمسائل والظهورات، ونظر إلى علم التوحيد واستنادهم إلى أقاويل إذا طُلبوا لها لم يجدوا لها عندها جوابًا إلا البُهت والمُغالطة والتكذيب والمُنافرة فلا تنطوي مجالسهم إلّا على الأباطيل، واقتداء بسيرة من روى الكُفر والتّبطيل وكلّ واحدًا قد هيّت له مسائل يلقيها عند تمكُنّه من البطنة واستمراء الشراب على عقول”
البطنة الامتلاء الشديد من الطعام وفي الأمثال يُقال: “البطنة تذهب الفطنة”
واستمراء الشُرب بمعنى شراب مريء طيّب،
ثم يُكمل الشيخ “أبي عبد الله بن شُعبة الحراني” بالقول: “فلا تسمع في مجالسهم -أي الشيوخ- إلّا الصياح والنفور وقلّة اللّذة والسرور، واللّغو السُفه”
وكأنّه يتكلّم عن حاضرنا وتكفير شيوخنا لكلّ من يجرأ الحديث بغير ما يجترونه من ضراط صنعه شيوخهم مُنذ زمن بعيد.
ولخّص وصف الشيوخ في عصره بالقول: «… تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ» كما جاء في سورة (الحشر: الآية 14)
هذه المخطوطة عثر عليها بعض الشيوخ السنّة، فأضافوا بخطّ أيديهم وابلًا من اللّعن والتكفير على صاحبها،
والسبب كما هو واضح يوجد في الرقعة الخامسة والسادسة، حيث ذكرت صفات الله “للشيخ ابن الحسن بن سنان” المُكنّى “بأبي جعفر الزاهري” عفوًا
وهو أحد تلامذة الإمام “علي الرضا” وعلي الرضا هذا هو الإمام الثامن عند الشيعة
حيث يروي عن هذا الإمام في حديث عن (كلمة الله)، هذه الكلمة تقع حروفها على وليه -والقصد هنا بين قوسين “علي بن أبي طالب”- لأنّه أنحله أي أعطاه الأسماء والصفات بأنّ الله باطنه غيب لا يُدرك ووليّه نور ظاهر مُستدرك، فيقع نوره أي روحه الظاهر على شخص محمد ويكون جسم محمّد اسم الله وصورة الله ونفسه، وتقع حروف محمد على وليه والوالي سلسل ومحمّد والوالي ظاهران مُستدركان واللّاهوت هو المعنى الظاهر بالغاية، والغاية هي الأزل القديم.
كلام في مُنتهى الخطورة عن “الإمام الرضا”
ومُلخصه: أنّ ولي الله “علي بن أبي طالب” هو روح الله ونوره الظاهر، ومحمد، وما محّمد سوى تجلّي لهذا النور الإلهي وصورة الله الظاهرة في الجسد.
ومن هنا يظهر سبب تفعيل أهل الشيعة كهذه الفرقة لمبدأ التقيّة، فيما يخُصّ العقيدة.
يُمكن لأحد أن يقول بأنّ هذه الفرقة الله وهي الفرقة النُصيرية العلويّة، نسبة “لمحمد بن نُصير النُميري”
التي تُألّه عليًا وهي حسب أهل السنة وبعض الشيعة، فرقة خارجة عن الملّة الإسلامية
لكن، في المُقابل لماذا الحجْر على معتقد مثل هذه الفرقة ما دامت ترى أنّ لله تجليات ظاهريّة، سواء أن كانت في عليّ أو غيره؟
ولها فلسفة خاصة أخذتها مُباشرة عن أئمة أهل البيت،
فلا ننسى أنّ مُحمّد بن نُصير هو أحد تلامذة الإمام “عليّ الهادي” والإمام “الحسن العسكري”
وكما رأينا فالشيخ “ابن سينان” أخذ مباشرة عن الإمام الرضا
إذًا، انتشار الإيمان بمذهب أو عقيدة مُعيّنة يكون نتيجة لتأثير مُباشر من تزاوج السياسة، سياسة الحاكم وعقيدة رجال الدين
فلو قُدّر لهذه الفِرقة الشيعيّة أن تمسِك بزمام الأمور في البُلدان المُسلمين، لاختفى مبدأ التقيّة، وتحولت الأغلبية الساحقة، للإيمان بأفكارهم ومعتقداتهم،
ولمَ رأى القوم كُفرًا في معتقدهم وأقوالهم خاصةً تحت رحمة السيف وسخاء الحاكم وإغداقه بالمال على الرعيّة من أجل مصلحته الخاصة، وكسب الشرعية لحُكمه
إذا كانت بعض الفرق كالقرامطة والدروز الموحدون والنصيريون العلويون تختلف اختلافًا كُليًا في العقيدة عن الفُرق الإسلاميّة الأخرى
فكيف يُمكن تصديق أنّها تتّفق في تاريخيّة مكّة، والتاريخ المبكّر للإسلام في ظلّ تفعيل مبدأ التقيّة
نكتفي بهذا القدر، وإلى اللقاء في الحلقة القادمة!
Download text file
You may also like
