التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 74 | هل الذكر هو القرآن؟

أهلًا بالجمهور الكريم!

من فترة بسيطة طلب مني الدكتور “أشرف عزمي”، مُقدّم برنامج (عبر الكتاب) على قناة الحياة، تحية له!

طلب لقاءً مُباشر على برنامجه ردًّا على داعية يدعّي أنّ مُخطوطات القُرآن القديمة أفضل حال بكثير من مُخطوطات الكتاب المُقدّس

وقد قدّمت نظرة سريعة على إشكالية المخطوطات القرآنيّة القديمة التي لا تختلف عن مخطوطات التناخ والإنجيل فيما يخُصّ أخطاء النسّاخ التي تنتج عن السهو والنسيان

وقد قدم هذا الداعية على سبيل المثال خطأ يقع عادة في مُعظم المخطوطات وهو من نوع الأخطاء الناتجة عن تكرار كلمة، كما ورد في مخطوطة طوبي قابي سراي Hs 44/32

وهذا الداعية لا يذكُر أرقام المُخطوطات العلميّة فمثلًا: مخطوطة طوبي قابي وهو لا يعلم أو ربّما لا يعرف أنّ في مُتحف طوبي قابي سراي ألاف المخطوطات من القُرآن، فأي واحدة منها؟

فأوّل درس نتعلّمه فيما يخُصّ المخطوطات عامة ذكر أرقامها العلميّة،

 ففي زيارتي الميدانية لمُتحف طوبي قابي سراي وسؤال عن مخطوط Hs 44/32 كانت الدكتورة “سهيلة مُراد” رئيسة قسم المخطوطات في هذا المُتحف جد مسرورة لوجود طالب وباحث من المغرب يتحدّث بلُغة المادة

وبهذه المُناسبة أشكرها على الاشراف والمُساعدة لدراسة هذا المخطوط بالذّات

يقول هذا الداعية: تكرّرت كلمة (وكلوا) مرتين في الصفحة 5 وهذا يعني أنّه ينقل كلامه من كتاب بعنوان (المُصحف الشريف المنسوب إلى عُثمان بن عفّان، نسخة مُتحف طوبي قابي سراي)

وكان عليه أن يقول هذه الكلمة تكرّرت في الرقعة 5 .. أو وش وضهر لمخطوطة Hs 44/32

ففعلًا هذه الكلمة أي (كلوا) من سورة البقرة  الآية 75 «وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (البقرة: 57)

تكرّرت سهوًا من النّاسخ، وليست مهمّة، وتُسمّى بلغة علم المخطوطات  Dittography وهذا النوع شائع جدًا في المخطوطات التي لا تخضع لنظام صارم كنظام السوفريم

وقد ذكرت هذا المثال بالذّات في كتابي (مخطوطات القُرآن) الصفحة 188

فما قدّمه هذا الداعية لا يرقى إلى تحليل علمي دقيق على مُستوى علم المخطوطات

بل قدّم لنا مشاعر وخواطر رجل مؤمن بالقُرآن على أنّه كتاب مُنزّل من عند الله كلمة كلمة حرفًا حرفًا

ولم يقع في  أي تغيير في النقل من فم الرسول محمّد إلى الصحابة والتابعين إلى يوم الدين

مُعتمدًا في إيمانه كباقي المُسلمين على الآية التي تقول: « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر: 9) كما جاء في سورة الحجر نفسها الآية 9

فرغم أنّ الذّكر في القُرآن يعني التوراة بحسب الآية 105 من سورة الأنبياء «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» (الأنبياء: 105)

إلى أنّ مُعظم المُسلمين يعتقدون أنّ الذّكر هو القُرآن، لأنّه مذكور كذلك في نفس السورة، سورة الحجر «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» الآية (الحجر: 6)

ولكن مُعظم هؤلاء المسلمين لا يعلمون أنّه موجود في أقدم مخطوط للقُرآن إلى اليوم وهو طرس صنعاء DAM01-27.1

وبحسب المُختصين كالدكتورة “إليزابيث كوين”  والدكتور “بهنام صدغي” والدكتور “محسن جودارزي” وجدوها «فقالوا يا أيها الذي أُنزل عليه القُرآن إنّك لمجنون» وليس الذكر

وهنا يتبيّن أنّ النّسّاخ أبدلوا كلمة القرآن، بالذكر لسببين، الأوّل: نفي تُهمة الجنون عن الرسول، وأنّ ما أتى به محمّد هو نصّ مُقدّس من عند الله موجود في الصحف الأولى كما ورد في الآية 19 من الأعلى «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ» (الأعلى: 19)

والسبب الثاني بالقول بأنّ هذا النصّ أي القُرآن لم يتغيّر ولن يتبدّل في المُستقبل، لأنّ الله عزّ وجلّ هو الذي يسهر على حفظه من التغيير والتبديل

ويُصبح بذلك نصًّا قانونيًا لا تؤثّر عليه حادثة حرق مصاحف الصحابة والاختلافات التي قيلت فيها ويُصبح بذلك كتابًا مُقدّسًا للمُسلمين كالإنجيل عند النصارى والتوراة عند اليهود

فمن الممكن أن يردّ أي مُسلم فيقول: القُرآن كان محفوظًا في الصدور قبل جمعه في مصحف كما ذكر هذا الداعية نفسه

وهذا القول يُردّد دائمًا دون فحص أو تمحيص، فلو كان كذلك لكن المسلمون يحفظون القُرآن بحسب النزول أي بحسب التتابع الزمني بحسب كرونولوجيته،

ولوجدنا فاتحة القُرآن هي سورة اقرأ وليست سورة الحمد

طبعًا الجواب على هذه المُعضلة جاهز عند أحبّائي المُسلمين،

 حين يقولون: بأنّ النبيّ كان يُشرف بنفسه على وضع كلّ آية في مكانها الذي أمر الله من خلال جبريل وضعها كما هي الآن في المصحف

في هذا القول مُغالطات عديدة، أوّلًا: الرسول بحسب الرواية الإسلاميّة هو رجل أميّ لا يعرف القراءة والكتابة كما توحي بذلك الآية 158 من سورة الأعراف «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (الأعراف: 158)

فبغضّ النّظر عمّا يعنيه سياق الآية والتفسير الفيلولوجي، فكيف للرسول وهو أميّ أن يضع آية نزلت بمكّة في زمن مكّة في سورة مدنية لم يأتِ وقتها بعد؟

على سبيل المثال: فسورة الحجّ هي سورة مدنية بحسب عُلماء الإسلام وفيها 4 آيات مكيّات

منها «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ » إلى قوله عقيم، الآية (الحج: 52 -55)

إذا كان هو الذي نظّم ترتيب الآيات القُرآنية بنفسه كما يروى، فكيف للصحابة إذًا أن يختلفوا على مصاحف عديدة أشهرها مصحف “عبد الله بن مسعود: كذلك “أبيّ بن كعب” ومصحف “علي بن أبي طالب” وغيرهم

فلو كانت إمكانية الحفظ والقراءة من الصدور لما أحرق الخليفة “عثمان بن عفان” مصاحف بعض الصحافة ولا قام “الحجاج بن يوسف الثقفي” بغلي أخر نسخة من مصحف “عبد الله بن مسعود” في الزيت أيام الخليفة “عبد الملك بن مروان”

وهنا نقطة أخرى نبّهني إليها صديقي الأستاذ “إحسان عبد ربّه” تحية له،

وهي إذا كان القُرآن قد رتّبه الرسول على النحو الذي وصلنا فمعنى ذلك أنّ الرسول هو الذي قام بجمعه وليس الصحابة، وهنا يترتب على هذا الطرح بالضرورة تساؤل أخر وهو

ما قيمة روايات جمع القُرآن على اختلافها إذا كان الأمر قد تمّ بهذا الشكل؟

وهذا السؤال نوجّهه بدورنا لكلّ من يؤمن بهذه النظريّة، نكتفي بهذا القدر،

 وسوف نُقدّم في الحلقة القادمة أخطاء تدلّ على عدم حفظ القُرآن في الصدور في بداية الدعوة المحمديّة

شكرًا على تتبّعكم وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 074

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 117 | القراءات المختلفة وعلاقتها بالقرآن
تحيّة لكُم مُتابعينا الأفاضل! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن مفهوم [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 116 | أصل الأحرف السبعة في القرآن
أهلًا بالمُتابعين الكرام! بعد ما قدّمته في الثلاث الحلقات الأخيرة عن [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 115 | فصول الكتاب المقدس في القرآن
أهلًا بكم أحبّائي المُتابعين! في الحلقتين السابقتين، تحدّثنا عن [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 114 | الكلمات الليتورجيا في القرآن
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية وجدنا أنّ القُرآن في مرحلة [...]
11 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 113 | القرآن كتاب الليتورجيا للصلوات
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في هذه الحلقة والحلقة القادمة سوف نُحاول [...]
6 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 112 | تهجير الرسول من أرض العراق
أهلًا بكم أعزّائي الكرام! في الحلقة الماضية، وفي إطار سلسلة من الحلقات [...]
6 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 111 | شواهد على مكة بالعراق
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن الفق ما بين [...]
3 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 110 | كعبة القدس وحرم مكّة
أهلًا بالمُتابعين الكرام! وصلني سؤال من أحد المُتابعين من سوريا يقول [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 109 | مكة عند المؤرخين القدماء
أهلًا بالأحبّاء الكرام! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن إشكالية مكّة، [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 108 | جغرافية مكة بين التاريخ والأسطورة
أهلًا بالمُتابعين الأحبّاء! سبق وقدّمت العديد من اللقاءات والحلقات على [...]
5 views

Page 2 of 13

اترك تعليقاً