التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 68 | الإعجاز العلمي في” سورة الرحمن”

أهلًا بكُم أحبّائي الكرام!

اليوم نُقدّم لكم حلقة خاصة، كما عوّدناكم،

وهذه الحلقة عن حقيقة الإعجاز العلمي في القُرآن، نزولًا عند رغبة العديد من المُشاهدين، والموضوع حول حاجز طبيعي بين أي بحرين مُلتقيين

حيث جاءت 4 آيات في القرآن تتحدث عن هذا الموضوع، كسورة الرحمن الآية 19 -20 «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ» (الرحمن: 19 -20)

ثم جاء في سورة الفُرقان: 53 «وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا» (الفرقان: 53)

كذلك في سورة النّمل: 61 «أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (النمل: 61)

وأخيرًا في سورة فاطر الآية 12 «وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (فاطر: 12)

قيل عن هذه الآية أنّها تحمل إعجازًا علميًا فريدًا من نوعه، فقد اكتشف عُلماء البحار والمُحيطات

كالعالم الفرنسي Cousteau أنّ هناك حاجزًا يفصل بين كلّ بحرين، وهذا الحاجز ظاهر للعيان،

 ومنهم من ألّف قصّة حول إسلام هذا العالم الفرنسي ليُدعّم هذا الاعجاز الفريد حتى يجعل منه حقيقة علميّة تُدغدغ مشاعر المُسلم وتجعله مُطمئنًا لهذا النصّ الإلهيّ

لكن عندما نضع هذه الآيات تحت المجهر للبحث، نجد هناك حقيقة أخرى تختلف تمامًا عمّا ذهب إليه أصحاب الإعجاز العلميّ

قبل أن ندخُل في عُمق الموضوع نُريد تقديم بعض التفاسير لهذه الآيات عند عُلماء الإسلام من أمّهات كُتب التفسير

وقد جاء في (تفسير الطبري) نقلًا عن “ابن عباس” يقول: مرج أي أرسل وفي اللّغة يُقال: مرج فلان دابّته إذا خلّاها وتركها،

وفي (تفسير القرطبي) مرج: بمعنى خلّى وأرسل، وأهمل.

يُقال: مرج السّلطان النّاس، إذا أهملهم، وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى إلى آخره

أمّا البحرين فجُلّ المُفسّرين القُدامى يقولون: هما بحران أحدهما في السماء والآخر على الأرض

هناك قول عن قتادة يقول: بحر الروم وبحر فارس واليمن، وهذا القول لا يُرجّحه الطبري، وإنّما رجح القول الأول لأن الآية في سورة الفرقان تُظهر طبيعة البحرين

حيث تقول: «وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ …» (الفرقان: 53)

فكلّ من بحر الروم والفُرس مالح أجاج، أمّا البرزخ فبدون شك معناه حاجز

وكما قال “مُجاهد” بين البحرين حاجز من الله، لا يبغي أحدهما على الأخر

وبالتالي فعُلماء تفسير القرآن يُقدّمون لنا المفهوم والمعنى الذي كان الناس في عصرهم يفهمونه من هذه الآية

فلماذا أصحاب الإعجاز العلمي في القُرآن يضربون عرض الحائط المعنى الحقيقي للنصّ، ويأولونه بحسب المُستجدات العملية التي اكتشفها الغرب الكافر

فلو صدّقنا جدلًا أنّ عالم البحار Cousteau أسلم لوجود هذه الآية في القُرآن

فهل فه الموضوع بحسب أمّهات كتب التفسير، أم بحسب تفسير أصحاب الإعجاز العلميّ في القُرآن الحديث العهد، لا شكّ بحسب التفسير الأخير

نعود الآن للتفسير التقليدي ونتساءل، هل هناك بحر في السماء وأخر على الأرض؟

بالطبع يمكن فهم بحر السماء كرمز للغيوم والأمطار التي في السماوات،

 لكن المفهوم القديم لبحر السماء وبحر الأرض كان سائدًا في الماضي في عقيدة القُدماء

والتوراة تُخبرنا عن هذا الأمر في خلق السماوات والأرض، وذلك في سفر التكوين الإصحاح الأول العدد 6 « وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلًا بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ». (ثم يكمل في العدد السابع) فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ.» (تكوين 1: 6 -7)

الجلد هنا بمعنى قبّة السماء، ولتوضيح الأمر أكثر يقول العلامة “مار مارسيه” السرياني في القرن الخامس الميلادي عن خلق السماوات والأرض في سفر التكوين،

وكان في اليوم الثاني أمر ليكُن جلد يفصل نصف المياه للأعلى، والنصف الأخر للأرض،

والجلد يصبح صلبًا في وسط المياه ليحمل الماء فوق السطح حتّى لا يحترق،

ويُكمل “مار مارسيه” تفسيره بالقول عن هذا الجلد: أنّه الميزان، استعمل كلمة مثقال،

الذي يفصل احتياط المياه الكبير وجمعها أي المياه في بحرين أو مُحيطين من أعلى ومن أسفل مثل سقف منزل

إذًا فكرة وجود بحرين أحدهما في السماء وآخر على الأرض موجودة في الثقافات والمُعتقدات السابقة للإسلام

والقرُآن لم يخرج عن هذه الثقافة السائدة في عصر ظهوره، والدليل على ذلك بوضوح فهو الأخر استخدم كلمة الميزان في سياق خلق السماوات والأرض في نفس السورة، أي سورة الرحمن، التي نحن بصددها في الآية 19 و 20.

حيث جاء الآية السابعة «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ… في ظل وجود الآية 10 «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ» (الرحمن: 10)

فالسؤال المطروح، ما دخل الميزان في خلق السماوات والأرض؟

فبحسب الثقافة القديمة كما نرى في تفسير العلامة “مار مارسيه” نجد أنّ ميزان الله هو الجلد بين السماء والأرض يفصل بين مياه السماوات ومياه الأرض بعدل

فلا يطغى جانب على جانب، وبالتّالي لا يحدُث أي خلل في اقتحام كلمة ميزان في موضوع خلق السماوات والأرض

ولكن، قد يتساءل البعض عن طبيعة هذا الميزان الموجود في الآية السابعة من سورة الرحمن ويقول: إنّه الميزان المعروف عند كلّ الناس، يزنون به بضائعهم، ولهذا جاءت الآية الثامنة والتاسعة

«أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» (الرحمن: 8 – 9)

كما هو الحال في سورة الأنعام، الآية 152 « وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا…» (الأنعام: 152) إلى أخره..

وكذلك في سورة الأعراف الآية 85 « وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» (الأعراف: 85)

وهود 84 -85 «وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ» (هود: 84 -85)

الجواب في آيات الميزان في كلّ من الأعراف وهود جاءت في سياق التعامُل بين الناس لكن الآية في سورة الرحمن جاءت في سياق الخلق

ولهذا السبب إذًا، وضعناها في سياق التعامُل الناس، يُصبح خللًا بلاغيًا في تسلسل السياق خاصة في ظلّ وجود آيات الميزان الآية 8 و 9 من سورة الرحمن  «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» (الرحمن: 8 – 9)

بين خلق السماوات والأرض، السماوات السابعة والأرض في الآية العاشرة

«وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ… وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ» (الرحمن: 7 – 10)

ولهذا هناك فرضيّة قدّمها الأستاذ Cuillaume Dye من جامعة libre de Bruxelles في بلجيكا

ولمعرفة هذه النظرية، كونوا معنا في الحلقة القادمة وإلى اللقاء!


Download text file

Early History of Islam 068

You may also like

التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 107 | مَلَكَة اليمين (الجزءالثاني)
أهلًا بالجُمهور الكريم! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن موضوع ملكت [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 106 | مَلَكَة اليمين (الجزء الأول)
أهلًا بالمُتابعين الكرام! في أيامنا هذه كثُر الحديث عن رجوع جماعة [...]
7 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 105 | الخريطة الدينية لأرض الحجاز عند ظهور الإسلام
أهلًا بالمُتابعين الكرام! لقد قدّمنا سلسلة من الحلقات حول موضوع البيئة [...]
2 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 104 | الأصل اللغوي للقرآن
أهلًا سهلًا بالجمهور بالمُتابعين الكرام! رأينا في الحلقة السابقة سلسلة [...]
9 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 103 | مقارنة مخطوطات مدراش ربا، وصحيح البخاري
أعزّائي المُتابعين أهلًا وسهلًا بكم! رأينا في الحلقة السابقة الرابط [...]
4 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 102 | هل القرآن ثمرة عمل جماعي؟
أهلًا بالمُتابعين الكرام! لم نُكمل بعد سلسلة حلقات البيئة التي ظهر [...]
5 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 101 | التأثير المباشر على القرآن
أهلًا بالمُشاهدين الكرام! في الحلقة 99 من هذا البرنامج، تحدّثنا على [...]
15 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 100 | خلاصة مائة حلقة من البرنامج
أهلًا بالمُتتبّعين الكرام!  بفضل تشجيعكم وتفاعلكم مع المواضيع التي [...]
1 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 99 | هل تلقى الرسول تعليمه على يد أعاجم؟
أعزائي المُشاهدين، أهلًا وسهلًا بكم في حلقة جديدة من برنامج (التاريخ [...]
7 views
التاريخ المبكر للإسلام | الحلقة 98 | خلاصة دراسة اسم مريم بنت عمران
أهلًا بكم أعزائي المُشاهدين! في الحلقة الماضية تحدّثنا عن مسألة خلط [...]
10 views

Page 3 of 13

اترك تعليقاً